لمحة تاريخية عن إقليم آرتساخ (ناغورني كاراباغ) بقلم: الدكتور البروفيسور آرشاك بولاديان

لمحة تاريخية عن إقليم آرتساخ (ناغورني كاراباغ) بقلم: الدكتور البروفيسور آرشاك بولاديان

ثقافة

الثلاثاء، ٢٩ سبتمبر ٢٠٢٠

يقع إقليم ناغورني كاراباغ أو آرتساخ في الجزء الشرقي من مرتفعات أرمينيا، حيث سكنه الأرمن منذ آلاف السنين، ويعتبر الإقليم من أقدم المناطق التاريخية الأرمنية، إذ إن العديد من المصادر القديمة تشير إلى أنه من الناحية الشمالية-الشرقية، كانت تمرّ الحدود الأرمنية على امتداد نهر الكور الذي ضم آرتساخ إلى أرمينيا، وتدل المصادر والمراجع نفسها القديمة غير الأرمنية والمعالم التاريخية على أراضي آرتساخ كافة، من دون شك، على أنها بسكانها الأرمن جزء لا يتجزأ من أرمينيا التاريخية، ويظهر ذلك بشكل خاص في مؤلفات كل من هيرودوت وسترابو وبيلينيوس الأول، وكلافديوس- بطليموس، وبلودارخ، وديون كاسيوس وغيرهم، الذين أشاروا إلى أن الحدود بين أرمينيا وألبانيا القوقاسية (الران بالعربية) رسمها نهر كور.

 

إن التنقيبات الأثرية كشفت عن أماكن ومعالم من العصور الحجرية والبرونزية والحديدية، أما في الكتابات المسمارية الأورارطية، فكانت مقاطعة آرتساخ كإقليم من الولايات الأرمنية الشرقية، تذكر بتسمية "آرداخوني" و"أورديخية". وانضمت هذه المنطقة إلى دولة أورارطو أو مملكة "وان" بعاصمتها "توشبا" في أوائل الألفية الأولى ق.م.[1]، وأصبحت لاحقاً جزءاً من مملكتي اليرفاندية والآرطاشيسية الأرمنيتين[2]. ومن خلال حديثه عن آرتساخ، يذكر الجغرافي اليوناني سترابو أن هذا الإقليم ليس له حدود مع البلدان المجاورة، ويدخل في عمق أرمينيا الكبرى[3]. وكشاهد عيان في القرن الأول ق.م. وأوائل القرن الميلادي، يذكر الجغرافي سترابو عن "شاكاشين- أوطيك" وأورخيسطينا- آرتساخ كولايات أرمنية. وبهذا الصدد يكتب: "إن نهر كير (الكور) يبدأ من أرمينيا، ويمر في وادٍ ضيق إلى ألبانيا (الران)- إلى آراطاجور، ويجري بينهما عبر أرمينيا"[4].

إن معلومات سترابو تعطي فكرة كاملة عن الحدود الشمالية-الشرقية لأرمينيا. ويذكر المؤرخ اليوناني أن سكان أرمينيا في القرن الثاني ق.م. كانوا يتكلمون لغة واحدة، أي الأرمنية[5]. وفي الفترة نفسها، أصبحت آرتساخ بسلالتها "الأرانشاهيك" جزءاً من دولة أرمينيا الكبرى، ووفق معلومات سترابو كان لها اقتصاد غني وقوات عسكرية، تستخدمها خلال الحروب[6].

في أواسط القرن الأول قبل الميلاد نالت آرتساخ أهمية كبرى من الملك الأرمني ديكران العظيم (95-55 ق.م.)، حيث أسس فيها واحدة من المدن الأربع التي تحمل اسمه "ديكراناكيرط" وتقع أنقاضها بالقرب من مدينة آغدام، ولا تزال أطلالها بما في ذلك المدافن القديمة والآثار الحجرية المختلفة والمنصات باقية حتى أيامنا[7].

 

إن آرتساخ بلاد المجد، مسكونة منذ العصر الحجري، ولم يتوقف نبض الحياة عن هذه البقعة أبداً، فعلى مرِّ الدهور، ورثت الحضارة الإنسانية فيها قدرات فطرية ومواهب خلاقة كالأدوات الحجرية البسيطة وصولاً إلى صروح العزّ والتقوى من أمثال كنائس آماراس وكانتساسار وغيرها من المعالم التاريخية، التي شيّدت بأيادي سكانها الأرمن، الذين بذلوا القصارى في سبيل الحفاظ على المنطقة، التي أصبحت من أهم المناطق التاريخية- السياسية، التي تشكل عليها الشعب الأرمني.

بدءاً من القرن الثالث ولغاية القرن الخامس الميلادي، تشكل في آرتساخ النظام الإقطاعي، وانتشرت فيها المسيحية رسمياً في أوائل القرن الرابع، وأسس كريكور المنور أول كنيسة في آماراس، وانتهى من بنائها حفيده كريكوريس أول مطران لإقليم آرتساخ[8].

في مطلع القرن الخامس الميلادي بعد اختراع الأبجدية الأرمنية من المفكر المشهور ميسروب ماشطوتس (عام 405)، انخرطت آرتساخ في حركة نهضوية وثقافية كبيرة لا مثيل لها في التاريخ، وتأسست بجهود ميسروب ماشطوتس أول مدرسة أرمنية في معبد آماراس بجنوب آرتساخ في منطقة مارطوني الحالية، وبذلك أصبحت آرتساخ مهداً للحضارة المسيحية الأرمنية في القرون الوسطى.

بعد تقسيم أرمينيا بين القيصرية البيزنطية وبلاد فارس في عام 387، انضمت مناطق ما وراء القوقاس ومن بينها آرتساخ إلى بلاد فارس. أما في أواسط القرن الخامس بعد انهيار مملكة الأرشاكيون الأرمنية، شكلت بلاد فارس من آرتساخ وأوطيك والران مقاطعة –"مرزبانية" (مارزبانوتيون) واحدة، ومن هذه الفترة ناضلت المقاطعة ضد حكم فارس، أما في نهاية القرن الخامس الميلادي، نتيجة الاضطرابات في عرش الدولة الساسانية، حصلت آرتساخ مع جارتها أوطيك بقيادة سلالة آرانشاهيك على استقلالها، وشكلت مملكتها تحت حكم فاتشاكان الراشد، وكان لهذه المملكة دستور وأنظمة خاصة بها، وكافحت من أجل مسيحيتها وانتشار الثقافة، وفي نتيجة تلك الجهود شهدت آرتساخ مرة أخرى نهضة علمية وثقافية كبيرة، وحسب أقوال أحد المعاصرين، تمّ في تلك السنوات بناء هياكل ومعابد يبلغ عددها بعدد أيام السنة[9]. وباشرت بأعمالها العديد من الكنائس ومراكز الثقافة خلال القرون الوسطى في جميع أنحاء المملكة، نذكر على سبيل المثال: معبد كتيش وكاطارو، آماراس، كانتساسار، الرسول يغيشيه، هوريك، داديفانك وغيرها[10].

بعد توطيد الحكم العربي في آرتساخ في أوائل القرن الثامن، ناضل سكانها من أجل حريتهم واستقلالهم، وقاد الحركات الشعبية ضد الخلافة العربية بدءاً من النصف الأول من القرن التاسع شخصان من سلالة آرانشاهيك- يساي أبو موسى وسهل سمباطيان (سهل بن سنباط).

بدءاً من القرن العاشر إلى السادس عشر، ظهرت على مسرح تاريخ آرتساخ إمارة خاتشين (من كلمة خاتش، أي الصليب) الأرمنية، ولعبت هذه الإمارة أيضاً دوراً سياسياً وثقافياً في حياة الإقليم، حيث جرى تسميتها خاتشين لمرحلة معينة، وكانت ظاهرة بارزة في تاريخ الإقليم[11]. فمن هذه المرحلة، أي من القرن الحادي عشر، ظهر العنصر التركي في أرمينيا أيضاً، وخلق بذلك مرحلة كارثية، ليس في أرمينيا فقط؛ بل في منطقة الشرق الأوسط برمته.

من كتاب قضية ناغورني كاراباغ - الجرح الـنـازف



[1]  الموسوعة الأرمنية السوفييتية، جـ 4، يريفان، 1978، ص 576 (باللغة الأرمنية).

[2]  بالايان فاهرام، تاريخ آرتساخ منذ القدم حتى أيامنا، يريفان، 2002، ص 32-42 (باللغة الأرمنية).

[3]  المصدر نفسه ، ص40.

[4]  المكان نفسه.

[5]  المكان نفسه.

[6]  الموسوعة الأرمنية السوفييتية، جـ 4، ص 576.

[7]  بالايان فاهرام، المصدر المذكور، ص 42، 48.

[8]  الموسوعة الأرمنية السوفييتية، جـ 4، ص 577.

[9]  لمحة تاريخية عن آرتساخ، يريفان، 2013، ص 3، انظر أيضاً الموسوعة الأرمنية، جـ 4، ص 577.

[10]  المكان نفسه.

[11]  مكردجيان ليفون، إقليم آرتساخ أو كاراباغ، الماضي والحاضر، ترجمة خالد جبيلي، حلب، ص 23.