بين صاحب «البدلة» العتيقة والباحث عن الشهرة.. أين المثقف البسيط؟

بين صاحب «البدلة» العتيقة والباحث عن الشهرة.. أين المثقف البسيط؟

ثقافة

السبت، ٢٧ يوليو ٢٠١٩

لبنى شاكر:
في مطلع العام الحالي عاد «صلاح صلوحة» إلى الرصيف الذي بدأ منه، كان في إمكان المارّة رؤيته يومياً بجوار حصته من الكتب في السوق المقابل لمركز انطلاق الباصات في «جسر الرئيس»، لعلها كانت محاولته الأخيرة لتقريب الكتاب من الناس، وعلى العموم لم يكن عرض الكتب في الطريق أمراً جديداً بالنسبة له بوصفه واحداً من أقدم بائعي الكتب في دمشق وشيخ وراقيها، هكذا كان الرجوع إلى نقطة البداية متوقعاً بسبب الظروف التي مرت فيها البلاد، وفقد خلالها مكتبته في مخيم اليرموك الفلسطيني، ومن هنا ربما بدأ الرجل يعد العدّة نحو رحلة أخيرة، لم يكن لها أن تُحدث أكثر من ضجة سريعة رافقت خبر رحيله وحيداً في مشفى ما، سرعان ما انتهت كما ينبغي لقارئ أحبّ الكتب وعارك الحياة، بهيئة بسيطة وأسلوب حديث مهذّب، حتى عدّه البعض أنموذجاً للمثقف الشعبي، واحداً من الناس ببساطة، ربطته علاقة حميمية مع كثير من القرّاء والباحثين عن المجلات والكتب القديمة والمراجع البحثية، ولأننا برحيله نفقد ابناً غير اعتيادي من أبناء البلد، نبحث عن مثقفي اليوم الذين تجاوزوا الشكل التقليدي كما كرّسته أعمال درامية وسينمائية للمثقف صاحب «البدلة» العتيقة والوجه القلق نحو شكل آخر يبدو فيه حيوياً ومهووساً بالشهرة، وإن كان تأثيره في الحالتين لا يتعدى في كثير من الأحيان إطاره الخاص، والسؤال: كيف تبدو العلاقة اليوم بين المثقف والناس من حوله، وماذا عن العلاقة بين النخبة المثقفة وما تمكن تسميته بالثقافة الشعبية؟، هذا كان محور حديثنا مع الناقد أحمد هلال والأديب د. جمال أبو سمرة.
تقاليد ثقافية
يقول هلال في حديثه لـ «تشرين» إن الأدوار الثقافية والمعرفية التي يقوم بها من يوصفون بـ «المثقفين الشعبيين»، أدوار تتعلق بأبعاد تنويرية خالصة، وقوة مثالها صلاح صلوحة الذي التصق بالثقافة كأسلوب حياة، لكن برحيله لن تطوى صفحة أولئك العشاق إن جازت التسمية، فهم ومن خلال علاقتهم بمستويات مختلفة من البشر باحثين وطلاب علم، أسسوا تقاليد ثقافية باهرة ظلّت تعيد الاعتبار للقراءة والمعرفة، على الرغم من الهجرة القسرية لزمن الكتاب الورقي بفعل التفجر المعرفي وسطوة «السوشيال ميديا» وثقافة الاستهلاك بكل تجلياتها وصورها.
ويرى هلال أن (هؤلاء «الشعبيين» كرّسوا غير نمط لاستقبال المعرفة وربما إنتاجها بفطرتهم المركبة وحساسيتهم الخالصة، لكن التطور والتسارع في حياتنا المعاصرة حفرا تأثيرهما البالغ إلى الحد الذي جعل منهم ماضياً مضى، فقليلون من أمثال هذا المثقف الشعبي في الظل وفي مساحات من الصمت، يتندرون على أزمنتهم الماضية ويفترشون الأرصفة بكتبهم أو ما تبقى منها كحال «أبي نادر صلوحة» الذي ذهبت مكتبته في الحرب وناشد أصدقاءه طويلاً لاسترجاع ولو جزء منها).
ومع ذلك لا يجزم هلال بغياب المثقف الشعبي بل يمكن القول وفقاً له إن مفهوم الثقافة الشعبية مازال أقرب إلى «الإرهاصات» بحضورها وتغير أدوارها وتشظيها، وإن كانت مع ذلك جزءاً من مكونات مجتمعية وإنسانية ومعرفية وتاريخية، في وقت يبدو فيه مثقفو النخبة المنكفئون «أكثرهم على الأرجح» ليس في أبراج عاجية أو جزر معزولة، بقدر ما أصابهم من عزلة على مستوى خطابهم ومعادلته بالواقع، يبدون أسرى أزماتهم الذاتية والموضوعية، وعلى ذلك «فالعلاقة ما بين المثقف النخبوي والناس، علاقة انفصام وانفصال بفعل تغيّر الوقائع، وبفعل الارتطام الحاد ما بين النظرية والواقع، إضافة إلى استحقاقات أدوار مركبة تعني مصداقيتهم».
أما العلاقة بين النخبة المثقفة والثقافة الشعبية فيشوبها الحذر والارتياب وغياب المبادرة، والسبب في رأي هلال التغيرات العاصفة التي أرخت بظلالها على مفهوم الثقافة الشعبية، في آليات فهمها وإنتاجها، وكيف تصبح أمينة للوجدان الجمعي والذاكرة الجمعية، ويرى الناقد أيضاً أنها «اغتربت لتصبح في أمكنة ضيقة، على الرغم من أن الخطاب الثقافي لا يغفل دورها وتثميرها وتطويرها وإنتاجها لتكون جزءاً أصيلاً من مكونات ثقافية وحضارية».
عمليّة اصطفافيّة
بدوره يرى د. جمال أبو سمرة أنه «من البدهي الاعتراف بأهميّة الحاضنة الشعبيّة للمثقّف المبدع، أياً يكن اللون الأدبي الذي يصبّ إبداعه فيه، سواء أكان إبداعاً مكانيّاً يتجلّى في الفنون التشكيلية كاللوحة والمنحوتة والزخارف والتصاميم وغير ذلك، أم في الفنون الزمانيّة كالشعر والموسيقا والمسرح، ولا بدّ من الاعتراف أيضاً بأن هناك تأثّراً وتأثيراً مباشرين، يجب تحقّقهما في العمليّة الإبداعيّة لكي تحقّق أهدافها في التغيير والتطوير والتحوّل من طور إلى آخر، فكما يسعى المبدع إلى التأثير الجمالي في جمهوره، وتبصيره، وتنويره، وتثقيفه، وتثويره، كذلك يعتمد على المجتمع وعلى البيئة الحاضنة في عمليّة الإبداع، فيستمدّ منها موضوعاته المتنوّعة، ويطرح قضاياه، ويلج عوالم نفسيّة عدّة، في المحصلة هو لا ينطلق من فراغ إنّما يعمل على إبراز رؤية العالم من حوله، ويعبّر عنها بالعمل الأدبي، ويلجأ أيضاً إلى توظيف «المواقف الشعبيّة الحواريّة أو الغنائيّة» بلهجتها العاميّة نفسها أحياناً ليغدو مقرّباً من جمهوره، وأكثر واقعيّة في التعبير عنه، كما أنّ«الخيال الشعبي» غالباً ما يتماهى مع الأدب لكونه يمتلك الماهية ذاتها في المبالغة عبر توظيف الخيال، والهروب من عقال العقل وقوانينه الصارمة، وهنا تكمن أهميّة الأديب ودوره المتمّم للحاضنة الشعبيّة عبر الصياغة الجماليّة والتركيبيّة للعمل الأدبي».
ويشرح الأديب أبو سمرة بأن بعض الفنون القوليّة، إن لم يكن مجملها، قد تراجعت خطوات عن الواجهة في ظلّ سطوة عالم السوشيال ميديا، والتقدّم التكنولوجي الهائل، وأصبح المثقّف أمام تحدٍّ جديد، فمهما حاول تطوير أدواته فلن يستطيع مسايرة هذه التطوّرات، وإن كنّا على حد وصفه ندرك أنّ هذه الهوة بين المبدع والجمهور قديمة جدّاً، وإن ممّا يستفزّ المتابع للمشهد الثقافي اليوم في رأيه، أنّ هناك في الغالب ما تمكن تسميته عمليّة اصطفافيّة،«فغالباً ما يتقلّص عدد المهتمّين بالثقافة من الجمهور، أمام جمهور المبدعين أنفسهم، أو ممّن لا يزال يخطو خطوات في عالم الإبداع، وكأنّي بالمجتمع يحقّق مقولة فيثاغورث التي خطّها على باب مقرّ دروسه: من لم يكن منكم مهندساً (يفهم بالرياضيات) فلا يدخل علينا!؛ أي من لم يكن منكم مبدعاً فلينأَ بنفسه عنّا، وهو أمر ينافي فطرة المبدع المسكون بشهوة الشهرة وحبّ الظهور»!.
اتكاءً على هذا كله، لا يظهر أن الظروف الحالية ستفرز نماذج شبيهة بـ صلوحة، بائع الكتب المستعملة وصديق الناس المتواضع، لمصلحة اللاهثين وراء الشهرة عبر أي وسيلة ممكنة.
تشرين