حفل توقيع الكتاب.. ضرورة أدبية أم «بريستيـج» ثقافي؟!

حفل توقيع الكتاب.. ضرورة أدبية أم «بريستيـج» ثقافي؟!

ثقافة

الثلاثاء، ٥ مارس ٢٠١٩

نجوى صليبه:
كثرت في السنوات الأخيرة حفلات توقيع الكتب من دواوين شعرية ومجموعات قصصية إلى روايات ودراسات وبحوث، وكأنّما صارت عرفاً وتقليداً وعادة لامفرّ منها، بل لعلّها صارت تشكّل لدى بعض الأدباء إشهاراً رسمياً أكثر من أي وسيلة أخرى، يدفعون تكاليفها وبنفس راضية مقابل لقاء الأصدقاء والمتابعين من الإعلاميين والمهتمين، يشاركهم الفرح أصدقاء نقّاد يحابون المنتوج الأدبي وصاحبه، وحيناً آخر نقّاد حقيقيون يقولون كلمة حق موضوعية وحيادية، وللأسف يعاندهم الحظ في أوقات كثيرة فيلجؤون بدراية أو من دونها إلى من تطفّل على هذه المهنة الجليلة، أمور تدفعنا للتساؤل عمّا إذا كان حفل توقيع الكتاب أمراً أدبياً ضرورياً أم إنّه مجرد «بريستيج» ثقافي يكتمل مع حضور بعض الشّخصيات الرّسمية والكتّاب المخضرمين ذائعي الصّيت محلياً وعربياً وربما عالمياً؟ يجيب الشاعر قحطان بيرقدار: لا أظنّ أنّ الأمر يقاس بالضّرورة أو بعدمها، لأنّنا إذا أمعنّا النظر لاحظنا أن حفلات توقيع الكتب لم تكن منتشرةً قبل الحرب على سورية، بل كانت في حدود ضيقة جداً، ولأسماء محدودة، أما الآن فهي منتشرة بكثرة، ويقوم بها كثيرون، وفي أماكن متنوعة، كلٌّ حسب ما يتيسّر له، نلاحظ أيضاً أن انتشار حفلات توقيع الكتب ارتبط بانتشار المنتديات الأدبية والثقافية في المطاعم والمقاهي في بدايات الأزمة في سورية، ولعل هذه المنتديات هي التي سنّتْ هذه السُّنّة أو هي التي جعلتها منتشرةً هكذا، طبعاً لأهداف تجارية غالباً، وتبعها في ذلك بعض المراكز الثقافية الرسمية التي تشكو شُحّ الجمهور، فوجدت في هذه الحفلات سبيلاً إلى تعبئة جزء من الفراغ الحاصل المستمر، وإلى تسجيل مزيد من الأنشطة في لوائح النشاط الثقافي، وليقال إننا ناشطون ثقافياً على الرغم من ضراوة الظروف، والآن نلاحظ أن هذه الحفلات أصبحت عُرفاً أو تقليداً أو زينةً وزخرفاً يقوم بها الجميع، من يستحق كتابه أن يُقام له حفلٌ ومن لا يستحق، ولعل بعضها يقام أحياناً لتعويض جزء من التكاليف التي صرفها الكاتب على طباعة كتابه، على كل حال، الأمر كالعادة تمّ تفريغه من قيمته ومضمونه، كما تم تفريغ كثير من الأشياء الجليلة من قيمتها ومضمونها، واختلط في هذا الباب الحابل بالنابل، وشابهت معظمُ الأشياء بعضاً، ولم نعد في مجتمعنا قادرين على تحديد ماهية ظاهرة ما بدقّةٍ مع الأسف.
وللشّاعرة جيهان رافع رأي آخر، تقول: بصراحة أنا مع الفكرتين، إنّه «بريستيج» وغير ضروري من جهة، ومن جهة ثانية هو طريقة إشهار مقبولة، وبالسّؤال عن المبلغ المالي الذي يدفعه صاحب المنتوج الأدبي لإجراء حفل التوقيع وعن المبلغ الذي يجنيه لقاء بيع نسخ منه، تجيب رافع: الكتاب لايحقق أرباحاً مادية، وعادة مايكلف التّوقيع مبالغ صعبة على البعض، لقد كلفني التوقيع كثيراً وأنا لم أبع كتابي خلاله بل وزّعته مجاناً.
وهذا ماتؤكده أيضاً الإعلامية والشاعرة رنا علي، تقول: أقمت حفل توقيع أربع مرّات وخلالها جميعاً وزّعت كتبي مجاناً، وفي كل حفل سأفعل ذلك لأنّ هدفي من حفل التوقيع هو إبقاء الاسم في الذاكرة لأنّه الطريقة الأكثر أماناً وضماناً، أمّا الربح المادي فليس هدفاً لدي كما أنّ البيع مسؤولية دار النشر.. مبالغ كثيرة تدفع لإقامة حفل توقيع تصل وسطياً إلى الخمسة والعشرين ألف ليرة سورية، بين اتصالات وتواصل مع المعنيين والإعلاميين والدّعوات والضيافة التي تقدّم في ختام الجلسة- من عصير و«بيتيفور»-، مايعني أنّ المدفوع أكثر من المدخول، إذاً ماهي المنفعة التي يبغيها الأديب من حفل توقيع كتابه؟ هل هي الإشهار فقط أم التغطية الإعلامية والاستفادة من رأي النقاد والمداخلات؟ تجيب رافع: هناك أشخاص قلّلوا من قيمة حفل التوقيع وصاروا يتنافسون على إظهار القدرة المادية أو قوة الحالة الاجتماعية كأن يكون في وظيفة مرموقة فيستغل المصالح المتبادلة عن غير عمد فتكون له حصة الأسد من الحضور والدعم وهذا أيضاً يضم موضوع الجوائز الأدبية التي تنهال عليهم، أما بالنّسبة للإعلام فهو أهم وسائل التّواصل والإشهار ولاسيّما في حال عدم حضور عدد جيد من الأشخاص المهتمين أو من أصحاب الذائقة الأدبية أو عدم القدرة المادية للكاتب وعدم معرفته ولو بالقليل من الوسائل الإعلامية أو الظهور كما ظهر من سبقوه لأنّ هذا أمر محبط وله أثر سلبي في حالته النفسية ويتسبب بتراجع قدرته على العطاء، مضيفةً: المنفعة المعنوية هي الشّيء الجميل في الموضوع، إذ يتعرّف الكاتب على الأصدقاء الأكثر قرباً منه والأكثر دعماً له، أمّا النقد فأحياناً يكون محبطاً وأحياناً موضوعياً، بالنسبة إليّ حصلت على نقد موضوعي بنّاء وحصلت على أصدقاء جدد وتعرّفت على طريقة للتّعامل في الوسط الأدبي أكثر موضوعية ممّا كنت عليه قبل.
ولعلّ النقد المقدّم في حفل توقيع أي منتوج أدبي هو مايسعى إليه كثيرون، لكن للأسف تشوبه في بعض الأحيان شوائب العلاقات والمحاباة والادّعاء، إضافة إلى تنوع القراءات بين مختصر مفيد وآخر موجز لا نفع فيه ولاضير، يقول الناقد أحمد علي هلال: تشهد حفلات توقيع الكتب قراءات تحت مسميات مختلفة منها ما يشير إلى النّقد أو إلى الإضاءة أو المقاربة أو الانطباع الناجم عن الذائقة فحسب، لكن اللافت هنا أن كلمة نقد سوف تلتبس في أغلبية القراءات لتشي ظاهرياً بالقراءة النقدية، أما جوهرها فسينسجم مع تقاليد الحفل أي التقديم لمجموعة أدبية ما، وهذا التقديم الذي يلفت بعض كتابه إلى أن المجال لا يتسع للنقد بطبيعته المعرفية والإجرائية، فيكتفون ربما بالمرور سريعاً على ما يحتويه الكتاب، وإن خطفت بعض الدراسات إلى ما يعنيه النّقد بأدنى فعّالياته، أي الإحاطة العامّة بقصد التّرويج للكتاب وبعض النّقاد الذين يقرؤون ذلك الكتاب كاملاً ليس بوسعهم أمام جمهور عام أن يتنكبوا دراسة نقدية فاحصة تستوي فيها المعايير النقدية خارج الانطباعات العابرة والآراء الشخصية المحضة، لأنّ النقد بقدر ما فيه من التخصص يحملنا على أن يكون في سياق الأماسي حاضراً، إن لم تكن الأمسية بذاتها مخصصة للنقد، وذلك الالتباس الصريح بين حفل التوقيع والقراءة النقدية، ربما يأخذنا إلى جملة من المفارقات الثقافية، فلا يتمكن الناقد المتخصص من قول كل شيء، تماهياً مع طقوس الحفاوة بالكتاب الموقع، فما يحدث هو أن يقدم القراء موجزاً عن الكتاب، مطبوعاً بالاقتضاب والكثافة ما أمكن، لأن ذلك الالتباس ما بين حفل وقراءة، يفارق وظيفة النقد وخصائصه وفعالياته المعرفية، التي تقتضي لغة نقدية وخطاباً نقدياً مختلفاً، إذ إن كلمة إضاءة بعموميتها ستبدو هي الأقرب في حيز التداول النقدي، وغالباً ما يذهب النقاد إلى إثارة قضايا تخص الإبداع وتخاطب القارئ العام، وذلك لا يمنع من أن يترك بعضهم أفكاراً عن الكتاب تهيئ للمتلقي مناخ القراءة، وتذهب الدراسة إلى النشر فيما يذهب ما يقال للجمهور العام إلى طبيعة جاذبة للمقروء، موسومة بالمديح وبث إشارات على استحياء أقرب إلى النقد..لكن مامدى موضوعية هذا النقد وبعده عن العلاقات والشّخصنة؟ يجيب هلال: على الرّغم من أنّ بعضه يتوسّل الموضوعية، لكنّ أكثره لا ينجو بذريعة الحياء من أفعال المديح وفي أغلبها أفعال مجانية، إذ يمتدح الشخص على حساب النص، ونادراً ما ينفصل النص عن الشخص أي المبدع في وعي القارئ، وذلك تبعاً لتقاليد مغلوطة في هذا الاتّجاه من أنّ المبدع يخشى النّقد أو مقاربة النّاقد لكتابه فربّما يحصل تواطؤ خفي ما بين النّاقد والمبدع أو النّقاد والجمهور في اتّجاهين؛ الاتّجاه الأوّل أن يكون النّاقد رحيماً فلا يقسو على مبدع يوقّع مطبوعته الأولى على سبيل المثال، والاتّجاه الثاني أن يكون الناقد صريحاً مع المبدع ولو أمام الجمهور، وكلا الاتجاهين قد تكرسا بفعل مواضعات اجتماعية لا نقدية، بالمعنى المعرفي أسست لما تمكن تسميته ثقافة المجاملات، فضلاً عن أن بعض من يقوم بالنقد لا يأتون غالباً من حقل اختصاص معرفي منهم مبدعون وسوى ذلك.. يضيف هلال: هذه التقاليد على أهميتها الاجتماعية والثقافية، يجب أن تفصل مابين أفعال القراءة النقدية وحفل توقيع بالمعنى الدقيق للكلمة، لأنّ لكلّ من المسميين استحقاقه بعيداً عمّا يسمّى الثّقافة الشّللية- الإخوانية السّائدة في المشهد الثّقافي، لكنّها إجمالاً تشي بحراك ثقافي باتّجاه ما يُنتج وما يُراكم عليه كمؤشّر لتعبيرات الثّقافة في لحظاتها المختلفة وإن ساورها الكثير من الخطل والقليل من النقد، تبقى بوصفها فعالية اجتماعية تنسجم مع التواصل الاجتماعي وتبث مشهداً متجدداً وطازجاً وحيوياً، بمعنى الدينامية المجتمعية بتعبيراتها الثقافية، التي لا تصنع بالضرورة مبدعاً، وفي المقابل لا تصادر على المبدع الحقيقي دوره وإبداعه، هي تكتمل بإرهاصات هذا المبدع، ولعلّها تقف على حقيقة ما في إبداعه أو تفارقها.
ويختلف مستوى تقبل صاحب حفل التوقيع حسب طريقة النقد، يوضّح هلال: على الأرجح أن أغلبهم يتظاهر بالتقبل وبعضهم الآخر لا يستطيع التقبل، ولاسيّما إذا كان النّقد مباشراً خارج الإيحاءات، وهذا يصدق على الهواة من المبدعين وكذلك على المخضرمين، الذين يلفتهم خطاب الطّريقة أكثر من الإشارة الواضحة إلى هنة هنا أو هناك، فمازلنا لا نستطيع الفصل بين النص وصاحبه، وهذا يعني أن الكثير مما يقال تحت مسمى النقد لا يعدو كونه انسجاماً فحسب مع منطق الاحتفاء وتقاليده بالكتاب.
تشرين