كمن يحملُ قلبه بين أصابعه.. غفران سليمان في «عيون تنتظر الفجر»

كمن يحملُ قلبه بين أصابعه.. غفران سليمان في «عيون تنتظر الفجر»

ثقافة

الثلاثاء، ١٠ يوليو ٢٠١٨

علي الرّاعي:
منذ بوابة العبور الأولى؛ تضعُ القاصة غفران سليمان؛ قارئ نصوصها في دائرة الانتباه والترّصد الذي يصل حدود القلق، وذلك بالتركيب الذي ستنتقيه عنواناً لمجموعتها القصصية «عيون تنتظر الفجر».
فهي، ومن خلال مشهدية لكائن لا تُفصحُ عن جنسه، إن كان رجلاً أم امرأة، كائن بدا من خلال ترتيب مُفردات العنوان (عيون تنتظر الفجر) قلقاً وحذراً ومُترقّباً، تذهب بنا لتعب وقلق شعراء العرب ما قبل الإسلام، شعراء كانوا أصحاب قضايا عظيمة، أو حتى أصحاب نوائب عظيمة، جعلت من حاملي تلك القضايا مهمومين وحزانى طوال الوقت، ومن ثم كانت لياليهم مهولة لفرط طولها، هنا الليل يُمسي كموج البحر، أو كأن نجومه شُدّت بحبال حتى لا تختفي ومن ثمّ لا صباح يلوح.
منها ما يذكره الشاعر امرؤ القيس في معلقته الشهيرة:
وليل كموج البحر أرخى سدوله
علي بأنواع الهموم ليبتلي
غفران سليمان، ومن دون أن تفصح عن طول ليلها أو ليل كائن قصصها مُباشرة، بل هي الأخرى تقيسُ على ما استخدمه قدامى الشعراء من كنايات واستعارات، لتوصل لنا مشهد ذلك الكائن الذي سيكون الشخصية المحورية لنصوصها، نصوص ستأخذ لها جنس «القصة القصيرة جداً» لتروي تحولات ذلك الكائن الحذر القلق الذي تبقى عيونه مفتوحة بانتظار فجرٍ ما، لعلّهُ يأتيه بفرج، ولذلك ستنوّع سرد حالاته، أو قل سرد محنته وسر قلقه، ومصادر ذلك القلق والمحن كلها، من هنا الأولى أن نصفه «الكائن في همومه» أو «الكائن في محنته».
كائن قصص غفران سليمان لن تعطيه اسماً، ربما إطلاق اسم عليه قد يؤطره ويُحدده بأبعاد، وهذه ميزة في نصوص القصة القصيرة جداً، التي شخصياتها ضمائر إما متصلة بأفعالها، وإما ضمائر – غالباً –هي غائبة، وقليلاً ما تُستخدم ضمائر المُتكلم أو المُخاطب، وهو الأمر الذي يوّسع من ملامح الشخصية لتكون «نحن» جميعاً بلا استثناء، وإن لم نكن ضمن هذه الـ «نحن»، فعلى الأغلب نحن قاب قوسين منها، أو أقل. ولذلك تكثر الأفعال في النصوص القصيرة، وفي نصوص سليمان تنسلُّ وتتناسل، وتأتي مُتلاحقة وتُفعم النص بالأفعال، أفعال مرةً تأتي من الماضي، ومرةً تتناوب وحتى تتساوق معها الأفعال الحاضرة، وهذا ما يُعطي الأحداث الكثير من الحركة والحيوية، وكأنّ الوقائع تجري الآن وهنا، وهو نص يتفوّق على النص المكوّن من الجمل الاسمية التي يغلب عليه الطابع الإخباري، وإن كان الإخبار هنا غاية من غايات القص والحكاية التي هو أحد شروط أو قواعد القصة القصيرة جداً حتى لا تُفارق القصة بشكلٍ عام القص إلى جنسٍ إبداعي آخر.
فهنا ثمة حكاية، وروي بأفعال تتناوب في وقوع أحداثها بين ماضٍ، أو حاضرٍ يُشبه ما مضى، وكأننا أمام «ستوب كادر» طويل جداً، أفعال تهرب من «فاعلين» ظاهرين إلى ضمائر غائبة أو مستترة، تقوم بأفعالها من دون أن نعرف لها ملامح وذلك بتغييب أسمائها الصريحة.. بل إن جل الفعالية الإبداعية لدى غفران سليمان يقوم على تقنية الإضمار والإخفاء، وأول ما تضمره الشخصيات التي تختزلها لضمائر.. فالقتيل في قصة «عائد» على سبيل المثال، لم نعرف كيف قُتل، ولا لماذا قتل، ولا في أي معركة ولا تُفصل لأجل أي غاية مات، ونعرف شيئاً عن هيئته، وذلك خلال عرض أحداث القصة، غير أن كلمة واحدة في بداية القصة ستكشف أن القتيل شهيد، ومعها تتوضح كل المعالم التي أضمرتها خلال سياق وقائع القصة، ذلك أنّ مفردة «عدو» أغنتها عن سرد عشرات الصفحات، ولأنّ القتيل شهيد، فإن الفقد سيكون بحجم وطن جريح، سيكون بحجم أم ثكلى.. إنه «القربان» الذي على النساء أن تُقدمه عند كل عدوان ابناً، أخاً، زوجاً، وصديقاً.. تأخذ القاصة حديث روح الشهيد لتكشف كل ما أضمرته بضربة مجاز.
«عائد»
أصابه العدو في مقتل، أفاق على قمة جبل، تنفس بسهولة، اقترب منه نسر ونقر في عينيه، لم تسل منه قطرة دم، حمله وطار به، أعاده إلى مسقط رأسه، استطاع أن يميز بكاء أمه، أيقن أنه الميت».
تتعدد شواغل النص القصير لدى سليمان، فرغم كل التكثيف والاختزال استطاعت، باستخدام البلاغة المُضادة القائمة على الانزياح وتجاور المتناقضات والمفارقة أن توسع فضاءات السرد في الحيز الضيق، وهو الأمر الذي أتاح لأن تُفعم الكتابة بالرموز والكثير، الحمولات الإنسانية، يُمكن أن يجد منها المُتلقي الكثير حتى في النص الواحد كما في قصة «جوع» على سبيل المثال، أو تبثها بغير نص.
«جوع»
دللت نفسي بوجبةٍ بعد تعب، وصوم، أحضرت رغيف إنسانية، وسكبْتُ صحنَ محبةٍ بصلصة عدلٍ، لكي أتحلى اخترْت قطعة تعاون كبيرة بعد أن أزلْتُ عنها قشرة الطائفية، وزينْت مائدتي بتشكيلة منشوراتٍ، ولم أنسَ كأسَ التسامحِ الذي أشتهي، بسكين رحمة، وشوكة أمل بدأْتُ وجبتي قبل أن أتذوقها هجمَتْ جرذان ملونة».
فعنوان القصة الذي تختزله سليمان بكلمة واحدة، ليس بوابة عبور لسرد النص أو تعريفاً به، وإنما هو جزء مُندغم بحيثيات النص وبتفاصيله، وقد يؤدي دور الشخصية المحورية فيه، تلك الشخصية التي لن تُعيد ذكرها خلال سرد وقائع القصة لثقتها أن العنوان الذي مرّ عليه القارئ لابد انسحب معه ليكون حاملاً وغاية النص وشاغله، ولنأخذ مثالاً أكثر القصص تكثيفاً وهي:
«أجنبي»
الزّي العربي، اللون، الشوارب، الانكسار، وشت بالضعف، تلذذ باستعبادنا..»
فرغم كل هذا الاختزال غير أنّ اختيار مُفردات بعينها، وتركيبها تماماً كما يفعل كيميائي في مُختبر، كانت الرؤية بهذا النص الذي يأتي كحكمة أو مثل في اكتمال مقولته، أما أجمل القصص التي وجدت متعة في قراءتها؛ فهي قصة «عودة» التي يُمكن أن تترك للقارئ خيار اكتشاف هوية العائد الذي شارك الأم غرفة نومها، والذي هو الأب الذي هاجر في شبابه خلف الرزق وعاد عجوزاً، الأب الذي لم يحفظ منه الأولاد غير صورة شبابه المُعلقة على الجدار.
«عودة»
طارده الجوع، هرب تاركاً ما وراءه من أفواه جائعة، أمسك القدر بيده، لم تتأخر غيومه، هطلت غيثاً وقويت جذورهم، احتفظوا بصورة شاب نحيل، أبيض، طويل، تأففوا من الضيف المنحني الظهر الذي شارك الأم غرفتها..»
النصوص اللافتة في مجموعة «عيون تنتظر الفجر» كثيرة ولاسيما في هذه المواربة في طرح القضايا التي هي بواعث السرد، وهنا تكمن القيم الجمالية للحكاية التي ترويها القاصة غفران سليمان بتقنية التراكيب التي تنسجها من كلمات تُزيحها من سياقاتها المعهودة، وتُحيكها لسرد سجاجيد القصة التي تُلبسها فساتين القول الإبداعي لتجمع هدفين معاً طرح القضية، ومتعة القراءة الإبداعية.