قراءة في كتاب سياسة التحالفات السورية بين عامي 1918 و 1982 
للدكتور بشار الجعفري

قراءة في كتاب سياسة التحالفات السورية بين عامي 1918 و 1982 للدكتور بشار الجعفري

ثقافة

السبت، ٢٠ يونيو ٢٠١٥

محمد خالد الخضر
كتاب سياسة التحالفات السورية بين 1918 و1982 لمؤلفه الدكتور بشار الجعفري يبحث في التاريخ السياسي لسورية بفكر سوري أصيل الانتماء والهوية مفعم بالهم الوطني والقومي والنضالي وفق غنى معرفي وفكري يستشرف التوجهات التي تحدد سياسة التحالفات السورية والتحرك السوري على الصعيدين الداخلي والخارجي منذ استقلال سورية عن الاحتلال العثماني عام 1918 حتى يصل إلى عام 1982 بتنظير جدلي وتحليلي لمجمل الأبعاد الإيديولوجية من دون أن يهمل مناحي علم الاجتماع السياسي وتداعيات الحضارة والتحولات البيئية والنفسية التي تأثرت بها المنطقة بشكل شمولي.
وفي كتابه يذهب الجعفري إلى تنقيب استقرائي واستقصائي في الخارطة الجغرافية السياسية لسورية منذ الحقب الأولى للوجود الإنساني إلى الوقت الحاضر حيث أبرز الحكمة والوعي السياسي من خلال تشدد سورية فيما يتعلق بالأمور الاستراتيجية وتمسكها بالثوابت الوطنية والقومية التي لا تتحمل تأويلاً ارتكاسياً، ولم يهمل المرونة الفقهية لسورية بمفاهيم آنية وذرائعية تخدم الثوابت وفق للتطورات السياسية المحلية والإقليمية العربية والدولية نائية بنفسها عن التعرض لسيادة الدول العربية متصدرة جبهة الدفاع عن حقوق الأمة العربية، ووحدة أراضيها، فالوحدة العربية تغلف هرم الاستراتيجية السورية البعيدة المدى إضافة إلى أن التوافق بين القضايا السورية والعربية يعكس المفاهيم النضالية والوحدوية والتضامنية، فدمشق تعتبر نفسها الأداة التنفيذية المناط بها للدفاع عن حقوق الأمة.
ويثبت الجعفري في منهجه التوثيقي موقف سورية الصلب حيال الصراع العربي الصهيوني والقضية الفلسطينية التي تشغل لب العمل السياسي السوري الذي وقفت بسببه سورية ضد الاتفاقيات التي تشكل طعنة للأمة العربية وتجزئة لوحدة المصير بين جبهاتها وتعني غدراً مطلقاً بالقضية الفلسطينية التي تعتبر القضية المركزية بين قضايا سورية النضالية وتصديها للمشروع الصهيوني ومشاريع تقسيم الأراضي العربية وتفكيكها واغتصابها.
ويتوغل الجعفري في المسار التاريخي لسورية منذ أقدم العصور فيدرس الإنسان في أصوله التاريخية التي تمس جوانبه الاجتماعية والاقتصادية والحضارية وتطور هذه الجوانب عبر الزمان والمكان وما أفرزه من نشاطات وأنماط وتراكيب معرفية متباينة، فبين أن الدلالات الأولى للاستيطان البشري تعود تقريبا في بلاد الشرق إلى العصر الحجري القديم وكان يوجد حينها تجمعان بشريان أحدهما في مصر والثاني في منطقة ما بين النهرين السورية العراقية وإن هذه المنطقة كانت تشكل مكاناً حساساً منذ أقدم العصور فهي التي شهدت أول أسطورة بشرية مشيراً إلى أن ملحمة جلجامش كتبت في هذه المنطقة وهي الملحمة السورية الأكادية والتي وضعها أبناء هذه المنطقة قبل الميلاد بثلاثمئة عام كما أنها شهدت أول أبجدية في العالم في مدينة أوغاريت الساحلية السورية.
ويوضح الدكتور الجعفري التطورات التي أدت إلى تشكيل المجتمعات والتكوينات الأيديولوجية المختلفة والمكانة المتميزة والمركز المهم لبلاد ما بين النهرين سورية ومصر أيضاً مستنداً بأدلة علمية تثبتها التقنيات الأثرية التي تشهد أن المنطقة السورية قامت فيها أعظم الحضارات والإمبراطوريات المزدهرة في ذلك العصر والتي تعاقبت حتى تشكل إرثاً حضارياً وثقافياً وفكرياً.
وتعرضت سورية وفق منهج الجعفري ودلالاته للغزو من إمبراطوريات ودول استعمارية طمعت في موقعها الجغرافي الاستراتيجي ومكانتها الجيوسياسية المهمة فكانت ساحة للقتال ومحوراً للنزاعات المستمرة بين البيزنطيين والساسانيين وهجمات تيمورلنك والاحتلال العثماني والاستعمار الفرنسي والانكليزي فنشأت في دمشق إيديولوجيات سورية وعربية وقومية وجبهة منيعة للدفاع عن سورية ووجودها الحضاري والمعرفي والإنساني فأثبت السوريون صلابة موقفهم ومدى نزوعهم للوحدة العربية.
وحلل الجعفري التحولات الاجتماعية ودور المحتل العثماني في إثارة النعرات العشائرية والطائفية من خلال سياسة فرق تسد ومن ثم الانتداب الفرنسي الذي برزت فيه مجموعة من كبار التجار كطبقة حاكمة تقليدية واجهتها الكتلة الوطنية، كما حلل مرحلة ما بعد الاستقلال وموجة الانقلابات العسكرية وعدم الاستقرار السياسي والصراعات بين الأحزاب وأثر الوحدة بين سورية ومصر على المستوى الاجتماعي والاقتصادي.
وأظهر الجعفري في دراسته السياسية ملامح تركيبة طبقية جديدة في فترة الستينيات بسبب انخراط بعض عناصر من الريف السوري في أحزاب سياسية تنادي بالاشتراكية كحزب البعث وغيره من الأحزاب الأخرى، حيث شهد العام 1963 تشكيل مجلس وطني لثورة الثامن من آذار وتلا ذلك الحركة التصحيحية ومرحلة الانفتاح العربي والدولي وتوسيع القاعدة السياسية لتشكيل الجبهة الوطنية التقدمية.
وشهدت سورية على مدى سنوات عديدة نظام التعدد الحزبي المنتشر في البلاد بشكل مميز ومشاركتها في النظم السياسية والإدارية.
ويذهب المنهج التحليلي والتطبيقي في الكتاب لإظهار أثر الاستعمار في تركيبة الأنظمة السياسية للدول المستعمرة وتوجه سورية إلى توحيد أقاليمها التي أوجدها الاستعمار ممزقة والسعي لخطوات وحدوية قامت بها مع الدول العربية كالجمهورية العربية المتحدة واتحاد الدول العربية المتحدة بين الجمهورية العربية المتحدة واليمن حيث لم تتجاوز هذه التجارب الوحدوية الصعوبات الداخلية والتغلب على الخصائص المحلية والانتصار على المنافسات السياسية والإقليمية أو الاجتماعية والتداخلات الخارجية وإيجاد الصراع العربي الصهيوني ومحاولة إقامة دولة فلسطين.
كما أشارت دلالات الكتاب إلى قدرة القيادة السورية وخبرتها في تجاوز الخلافات لتحقيق المصالح العربية الشاملة وترك الأولوية للصراع مع الكيان الصهيوني التي كانت الولايات المتحدة الأمريكية سندها ودعمها بصفتها الأداة الأخطر في تنفيذ المنظومة الاستعمارية في الوطن العربي والشرق الأوسط.
ومن أهم ما أورده الجعفري دور سورية في التصدي لمبادرة السلام بشكلها المنفرد والتي كانت تذهب لتمزيق الصف العربي وتكريس التشتيت وإعطاء الكيان فرصة ضم الجولان وغزو لبنان وتهويد القدس إضافة إلى ما سعت إليه سورية في إنماء العلاقات مع الاتحاد السوفييتي وحشد الرفض العربي للتطبيع مع الكيان الصهيوني لأن قضية فلسطين هي أساسية وإنها لن تتجزأ عن سورية الطبيعية ما قد يؤدي إلى تمادي السرطان الصهيوني إلى أكثر مما هو عليه.
وبين الجعفري أن إنشاء أي تجمع جيوسياسي عربي منسجم يضم الاتجاهات السياسية العربية يستدعي مراعاة الخصوصيات الإقليمية والمحلية التي تعبر عن نفسها وهي تعيش في حالة انكماش وشرنقة محزنة قد تجاوزها التاريخ المعاصر، فالأمم تميل إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية وتقسيم الخارطة الجغرافية الدولية إلى تفضيل التجمع في محاور وأحلاف ومنظومات، حيث المصالح المشتركة والمنفعة المتبادلة وهذا ما أدى إلى دور إيجابي في المنطقة عندما سعى الرئيس حافظ الأسد ونجح في تشكيل منظومة عربية عندما نجح في حرب تشرين التحريرية
يعتبر الكتاب وثيقة تاريخية اتجهت إلى منهج تطبيقي توثيقي تحليلي ظهرت خبرة صاحبه بعد صدور مجموعة من المؤلفات له بحث خلالها في سياسة سورية والعالم الآخر ومن هذه المؤلفات:
الجماعات المصلحية الضاغطة في الولايات المتحدة الأمريكية، والسياسة الخارجية السورية، والأمم المتحدة والنظام العالمي الجديد، وأولياء الشرق البعيد – وكل هذه المؤلفات اعتمدت الدقة والموضوعية في استخدام الدلالات المنهجية.