تعددت أساليبهم وغاياتهم واحدة

تعددت أساليبهم وغاياتهم واحدة

الأزمنة

الأحد، ٣١ يوليو ٢٠١٦

زهير جبور
يومذاك استوقفتني مجموعة من شابات وشبان الكشفية. وهم يرتدون ثيابهم الرسمية بلونها الأزرق، و(فولاراتهم) من أعلى الكتفين حول الرقبة إلى الصدر بجمال أضاف إلى الطبيعة التي كنا فيها جمالاً. والإنسان يعطيها البهاء إن عرف فن التعامل معها. كما تعطيه. ويصل إلى محاكاتها حين يغوص بها. ويفهمها كما يجب. شعرت حينها أن هؤلاء يؤدون دورهم على الأرض ليسوا بعيدين كثيراً عن العصافير التي تزقزق على الأغصان. لهف قلبي لهم.. أو بتعبير آخر اندفعت بكل حواسي إليهم.. لتقترب واحدة منهن تحمل ملامح وجهها تقاطيع البتول. قائلة: نحن من الكشافة. وتقدم لي ورقة مطبوعة. تعرفني أنني في محمية غابات الفرنلق. وفيها إرشادات حول أسلوب تعاملي مع الغابة. إن أردت الراحة. وقضاء الوقت تحت ظلال أشجارها، حدث ذلك قبل سنة من الأحداث المؤسفة، المؤلمة، التي شهدتها سورية. وبعد اطلاعي على المعلومات الواردة. طلب مني أن أتقيد بها. وكانت اللطافة تشمل المفردات المطروحة. فأسرعت للكتابة عنهم. وعن المحمية وأغراضها.. ولماذا الاهتمام بها؟ ونشر الموضوع في مجلة الأزمنة وقتذاك.
تذكرته قبل عدة أيام. حين رأيت على طريق حلب-اللاذقية غابات محروقة وأشجاراً متفحمة. وعشت حزناً. ولا بأس أن ننوه هنا إلى أن بلادنا كانت في قديم الزمن تضم غابات تغطي مساحات شاسعة. وأسباب تراجعها الاستعمالات الخاطئة، وعدم الوعي. كانت تقطع الأشجار لاستخدامها كوقود. أو التوسع الزراعي. إقامة الأبنية والطرقات. وتتواجد الغابات حالياً على المنحدرات الصخرية ومناطق يصعب الوصول إليها. في الساحل السوري. وأصبحت فيما بعد تفتقر إلى التوازن. ومما لا شك فيه أن فقدان هذه الثروة خسارة كبرى للأجيال. والبيئة. والمناخ...
وليس أكثر ألماً من مشاهدة جبال كانت خضراء فحولتها الهمجية، وبشاعة الإنسان ودمويته إلى مجرد صخور جرداء... الحرب القذرة أوصلتنا إلى هذا الألم. وهي تستهدف الإنسان. والمدن. والغابات. والزراعة. وكل شيء حي..
استرجعت ذكرى الكشافة. وكنا نعطي الغابة الاهتمام. برغم التقصير كان الغرض منها في محمية فرنلق. أو مشروع صون التنوع الحيوي والمحميات الأرز. والشوح في صلنفة. أن نحمي البيئة التي اخترقت. وأن نحافظ عليها. من الشجيرات إلى الأزهار، الحيوانات، إلى التربة الخصبة، ومتابعة تجددها السنوي. من دون التدخل البشري الذي يفسد نظامها الطبيعي. فماذا حين تدخل النار. والسلاح، والقذائف، والوحشية. ويا لهول ما فعلوا؟ وفي الفرنلق أشجار يرجع عمرها إلى آلاف السنين. وكان فيها ينابيع مياه معدنية. وقد استغلها الرومان قديماً لإقامة مسبح على ضفاف سرير نهرها، ما زالت بقاياه الحجرية قائمة حتى الآن. إذاً هي طبيعة ساحرة منذ نشوئها الأول. تمتد حتى طريق حلب. وصولاً إلى مصيف سلمى وصلنفة. وحتى جبال الساحل، وطرطوس.. وإلى عمقها الجغرافي في إدلب، وجسر الشغور. ومعظمها طالته يد الإرهاب. حارقة، مخربة، باطشة من دون رحمة، ولا ضمير...
•    الإنسان أولاً:
الشجرة خيرة تعطي بسخاء ولا تبخل. والغابة تتجدد بعد زمن وتعود إلى حالها إن لم يتدخل الإنسان في توسيع المساحات المزروعة أو البناء غير المنظم. وكان استعمالها لرعي الحيوانات، وللصيد، والنباتات الصالحة للأكل. الفطريات والأعشاب والتعامل معها يخضع لنوع البشر الذين يعيشون حولها. وإذا كان الوعي في الماضي معدوماً، إلا أن الفطرية كانت تجعلهم يشعرون بالأهمية وما تعطيه لهم الغابة. ومن بعد أصبح الاهتمام أكثر.. لكن المخالفات الخارجة عن القانون. والعبث أدى إلى أضرار لا يستهان بها. وقد استغل بعض ضعفاء النفوس حالة الحرب. فراحوا يقطعون الأشجار ويستعيضون عنها بالإسمنت طمعاً بالربح، والجشع في النفوس يعمي البصيرة والبصر. ولو قدر لنا أن نحصي الأشجار التي قطعت في طوق مدينة اللاذقية لإقامة الأبنية العشوائية فسوف نصاب بحالة ذهول. وكلها أشجار لها عمرها. وإذا ما توقعنا سبباً لارتفاع نسب الرطوبة والحرارة فسوف نعلن أن لإزالة الأشجار التي كانت محيطة بالمدينة دوراً إلى جانب ما طرأ على المناخ العام من تبدلات. وما حرقته الحرب الملعونة.
ولا بأس أن نذكر أن الغابة تحمي التربة من الانجراف. وتمنع فقدان الجزء الأكثر خصوبة من الانجراف إلى الوديان. والبحر في الفيضانات المطرية. وتخفف من التأثيرات المدمرة. وترشح المياه والثلوج ضمن التربة لتغذي الينابيع والمياه الجوفية، ولها تأثيرها في دور المياه الطبيعية. ومن دونها فإن الأمطار تنساب على المنحدرات الجبلية ليتشكل الفيضان الذي له تأثيراته السلبية على القرى، الطرق. الزراعة. ولا ننسى أيضاً أنها تمتص ثاني أكسيد الكربون وبعض الغازات السامة الناتجة عن احتراق البترول. (سيارات)(مدافئ) معامل. وهي تطلق الأوكسجين في الجو- هو الإنسان، الذي من أجل غاياته الخاصة يخرب كل شيء.. وأجد أن من واجبنا الآن ونحن ننظر إلى المستقبل بروح وثابة. وأمل مستشرق. إعادة النظر فيما يخص غاباتنا أولاً. إعادة تأهيلها. والإسراع في إزالة المساحات التي فقدت مقدرتها على التجدد الطبيعي. والتشجير يساعد في تنشيطها. وقبل كل شيء تبني الإنسان المؤهل للتعامل مع الحياة الجديدة التي ينبغي أن تتحقق بعد الانتصار. ودحر الإرهاب. وهي مهام صعبة. تتطلب توحيد الجهود كافة. والعمل بيد واحدة. بعيداً عن الفرديات التي ظهرت في الحرب واستغلها الذين ما رحموا البشر من احتكارهم. وقذارتهم. وانسلخوا بشكل من الأشكال عن الوطن. وهم يشكلون نسبة لا بأس بها. أغنتهم الحرب، فاستغلوها من دون ضمير في كل مكان.
يقطعون الأشجار ويحملون جذوعها لتحويلها إلى خشب وفحم. وثمة من يساندهم في ذلك. وأثناء قيامنا بجولات على الغابات كانت هذه الممارسات مفجعة. وآثار الجريمة موجودة في الجذوع المقطوعة. والجذور التي اغتيل نبضها. وشاحناتهم تعبر من دون رقيب. رأينا ذلك بين سهل الغاب وبلدة بيت ياشوط. ورأيناه في غابات أعلى الجبال.
وغابات أخرى. ورأيناه أيضاً في ضواحي المدينة البناء العشوائي أو من دونه. منذ شهرين كانت شجرة (الزنزرخت) التي تقع خلف مدرسة أجيالنا في الطريق الفرعية المؤدية إلى بلدة القنجرة تظلل حولها قرابة عشرة أمتار. شجرة قديمة جميلة. تتدلى أغصانها الخضراء. ويؤمها العشاق. ومن يهربون من الحر. كانت بالنسبة للطريق نقطة متميزة. تلتف أنظار الزوار. وجدتها أثناء زيارتي لمكانها مقطوعة بكاملها. وحين سألت قال أصحاب بساتين الحمضيات التي بجوارها إنهم لا يعرفون الفاعل. وقد قطعت ليلاً وتم ترحيلها. من دون أن يترك إلا ما بقي منها في عمق الأرض... هذه الشجرة كانت ترمز إلى المكان. والزمان. حولها دارت الكثير من حكايات الحياة التي غيبتها يد الطمع. والانحطاط. تألمت على الشجرة... كأنني فقدت عزيزاً على قلبي لأنها كانت هي كذلك حقيقية. الحرب دمرت الآلاف مثلها. هي الحرب في النهاية وعلينا مواجهتها. وصدها، والانتصار عليها.. أما أن تكون اليد القاطعة مفتعلة وموجهة فهذه جريمة لا تقل فظاعتها عن وحشية الحرب.. ومن يقوم بهذا الفعل فإنه على استعداد للقيام بالأشنع، والأفظع لتحقيق مصالحه وغاياته، وفرديته. هؤلاء هم الذين يحملون السلاح موجهين فوهاته لأبناء الوطن بكل ما فيه.
تعددت أساليبهم وغاياتهم واحدة أينما كانوا... ووجدوا.