بخير مادامت موسيقا

بخير مادامت موسيقا

الأزمنة

السبت، ٩ يناير ٢٠١٦

زهير جبور
سمعت الأم المقلدة, المتصنعة تتحدث مع ابنها بوساطة الهاتف. محاولة لفت انتباه الحاضرين في الجلسة لحديثها كي يبدو إعجابهم بثقافتها ومقدرتها الفائقة بتربية ولديها والإشراف عليهما، فيما يخص موضوع الموسيقا. ولأنها من طبقة ذي النعمة الطارئة, والثراء مغلف بطبقة من فساد الزوج صاحب المنصب، فقد سمحت لولدها باستعمال (البيانو) بعد أن أنهى واجباته المدرسية, وغادره أساتذة الساعات الخصوصية. ويظهر أن الطفل خبرها بما سيعزف فكان جوابها اعزف السابعة. ونالت مكالمتها تلك الثناء والمديح والإعجاب والاهتمام .. وحققت هي أهدافها في المزيد من الغطرسة والوهم والتفوق التربوي . وحين سألنا بشكل خجول عن سبب اختيارها السابعة للمرحوم (بيتهوفن) والكل موسيقا. ردت أنها تفضل توجيه الولدين في كل شيء. قلت: الموسيقا اختيار، يشرف المدرب على التعليم والمعرفة ويترك خيال العزف للمتدرب إذا ما صحت النظرية التربوية التي تقول: إن الموسيقا توسع فضاء الأفق وتولد حالة التوازن النفسي في الشخصية. وتحفز الخيال. وهي من الوسائل التي تؤثر في نمو شخصية الطفل في مراحله الأولى. ويسمعها  برحم أمه. لكن السيدة بقيت على موقفها وتصنعها، ومن خلال الحديث اكتشفت أنها لا تميز بين السابعة وطبلة (الديك) مترنماً بصوتها ناطاً بحماسة مع (سمرة وأنا الحاصودي) ، ما جعلني أذكر تلك السيدة بعد مرور سنوات على مقابلتي لها  هو ذلك الحفل الموسيقي الذي حضرته بصالة الأسد للثقافة. والتي تتسع لأكثر من ألف مقعد كانت مشغولة بكاملها. حيث المركز الوطني للموسيقا الذي أقام أمسية طلاب المركز للموسيقا لعام 2015 تحت شعار (بخير مادامت موسيقا).
•    لأنها الموسيقا
هي الموسيقا فعلاً. ضمت هذا العدد من الناس الذين حضروا فرحاً بأولادهم الذين سيقدمون عزفاً أشرف المركز على تدريبهم عليه وصقل موهبتهم. ومهما يكن الأمر فإن الحضور يرمز إلى أن سورية بخير, وأن يد الإرهاب لن تطولها لتفقدها بريق العيش وإشراقة الأمل المتجددة دائماً. أطفال. شبان وشابات. كل منهم حمل آلته الموسيقية على كتفه مغلفة بمحفظتها وجاء ليؤدي دوراً أتقنه، والرمزية هنا تكمن في ذلك الإقبال على الحياة والتوازن بين منهج العلم والهواية والحرص على الجانبين في بناء الشخصية. وتشير النظريات الطفولية النفسية إلى أن هذا النشاط الإبداعي الموسيقي الذي يؤديه الطفل وحيداً في العزف أو بمشاركة الآخرين ما هو إلا تلك الحالة المتخيلة التي تحفز الطفل للتحليق خروجاً من أي قيد. وهي حالة إبداعية ترسخ مبدأ الاستقلالية المؤقتة المنشودة مستقبلاً. وتشكل الموسيقا الأساس المتين في البناء إلى جانب بعض الألعاب الأخرى ذات المواصفات المعقدة , كما هي لعبة تركيب المجسمات التي تتطلب التفكير، ومن وجهة نظر أخرى فإن الطفل في الثانية عشرة أو الرابعة عشرة عليه أن يتجه نحو تعلم المهنة التي يعد نفسه إليها, من منطلق أن الفرد يبني لنفسه ومنذ سنوات تكوينه الأولى فلسفة خاصة في الحياة. ومن الدور الذي يمكن أن يمثله في المجتمع. وليس من شروط التربية العلمية أن تحدد الأم ولا الأب ما اسم الموسيقا من باب التوجيه، وهي تحد من التحفيز التحليقي الاستقلالي التربوي. وهذا من الأخطاء الممارسة في الشأن التوجيهي غير المدروس والمبني على الجهل.
•    المركز الوطني
السيد زيد راهب مدير المعهد, ومدرس الكيتار فيه. قدم لنا فكرة عن أعمال المركز الذي يضم طلاباً من عمر خمس سنوات وحتى السنة الأخيرة من التخرج الجامعي. وفيه أيضاً أعداد لا بأس بها من أبناء الأخوة الوافدين من المحافظات الساخنة، الذين كانوا قد تدربوا في محافظاتهم. وبسبب الإرهاب والدموية تركوها وقدموا إلى اللاذقية ليتابعوا تنمية مواهبهم رغم الظروف المحيطة بهم وصعوبتها. وثمة أطفال من مدن القامشلي. دير الزور. حلب. إدلب. ولاحظ المدير أن هؤلاء استمروا في العطاء ومنهم من تقدم كثيراً في الهواية. من مفهوم أن للموسيقا دورها الكبير في تلقي الصدمة النفسية, ولا ننسى أنها تشارك في العلاج. وتساهم بتخفيف الضغط. ومن هذا المفهوم لاحظ ذلك التقدم الذي أظهره هؤلاء الضيوف , ولا يقتصر الأمر على الموسيقا فقط بل الإقدام على الفنون بكافة أنواعها. ويوضح أن المركز يحاول تأمين ذلك قدر المستطاع لكن الظروف المادية تحول دون هذا. وهي الخطة الطموحة  ويأملون الوصول إليها مستقبلاً. أما الإدارية ريم جبور فقد توقفت عند فكرة التهيئة النفسية والاستعداد الإرادي, ومن خلال تجربتها وجدتها هي الأقرب للوصول إلى النجاح. وتنمية الميول تتطلب الشروط الملائمة للتنفيذ, وتقديم المزاج والمشاعر الذهنية واستخدام المعلومات. وتحديد أن البارعين في مجال ما يميلون إلى التفوق في مجالات أخرى. وهذا يخضع لقياس أداء الفرد. وتشير إلى أنها بخبرتها وممارستها للعمل أصبحت تقدر بتلقائية نوعية المتلقي, ومدى حماسته  وإقباله. وهو ما تشاركه به راده جبور أستاذة الكمان في المعهد. والتي بدأت العزف منذ كان عمرها 12سنة. استمرت بحب واندفاع  وحين أنهت دراستها الجامعية وجدت أمامها إلى جانب عملها فرصاً كثيرة كي تبدع وقد خرجت الكثير من الطلبة  وأشرفت عليهم بحماسة واندفاع. أما  أرام عمران مدرس مادة البيانو فيجد المسألة تتعلق فعلاً بالاستعداد, والاندفاع الشخصي, ودور الأستاذ. وهم في المركز يتبعون المنهاج الروسي بتعليم البيانو الذي يطبق على أعمار 12 و13 سنة, ولاحظ إقبالهم عليه وتفهمهم، أما منهاج الأطفال فهو مدروس وسهل ويطبق بنجاح. وإلى جانب دراستهما الصيدلانية تجد هيا شروف في السنة الثالثة صيدلة, وعفراء سنة رابعة  أن للموسيقا دوراً كبيراً في تحفيز الطالب على التفوق بدروسه, وتحدد هيا أنها تعتبر العزف على الكمان حالة استرخاء نفسي, ومناسبة رائعة ومحببة للخروج من معادلات الصيدلة. ودروسها في الكلية. وهي أثناء استراحتها تندفع للعزف بحماسة وحب وتجدها حالة رياضية تؤهلها للخروج جرياً عن حالة اعتادتها في الدراسة, إلى أخرى تجدد فيها النشاط والحيوية. تقول عفراء: إن الموسيقا عالم آخر يخرجنا من كل العوالم لنحياها بكل حواسنا إنها عالم جميل أدعو الجميع إليه.
•    طموح وأمل
مشروع المركز الوطني كبير. وكانوا يفكرون في جعله تجمعاً ثقافياً للموسيقا والمسرح والغناء والفن التشكيلي. والعمل على الثقافة العامة، ولكن الأحداث المؤسفة حالت من دون تحقيق طموحهم هذا. وهم يؤمنون فعلاً بشعار حفلهم (بخير ما دامت موسيقا) سورية بخير ما دامت فيها الموسيقا والموهبة, والأسرة المتماسكة  ومن يحميها ويدافع عنها. والشرفاء الذين يعملون لخلاصها ويقدمون التضحيات. شكراً للذين شاركوا في الحفل الإبداعي الناجح, ولمن قدموا أعمالهم وتميزوا  واستحقوا الإعجاب من الجمهور الذي حضر, وصفق, واستمع. وما نرجوه أن نرى المركز الوطني نجماً ثقافياً كبيراً. يساهم في بناء الحياة كغيره من الجهات الإبداعية والخدمية. بعد أن تنتصر سورية وتطرد الأشرار, وتمضي في طريقها صوب الشمس التي ستسطع فوقها دائماً.