يا لها من مهمة شاقة

يا لها من مهمة شاقة

الأزمنة

الأحد، ٦ سبتمبر ٢٠١٥

تم العمل على موضوع الثقافة، وانشغل عليها كنوع من التربية الحريصة على الأجيال القادمة، التي ستحمل رسالة الوطن وأمانته، وخلق أرضية الانطلاق التي شهدت في سبعينيات القرن الماضي تصاعداً ملحوظاً، حاملة شعاراتها ذات المضامين، ولعل من أبرزها جعل صوت الجماهير فوق كل صوت وإعلاء شأنها المواطني، وهي الأساس في بناء المجتمع الصلب. المواجه. المتحدي وجميع المؤامرات تتحطم عند صخرته العقائدية. الثقافية وصولاً لتحرير الأراضي المغتصبة، وتكوين فكر الممانعة والمقاومة، وإلى الآن تتوسع المؤامرة، تستقطب قوى الظلام لسفك الدم والخراب، وإذا ما أجري الفرز، فسنجد غياباً للمثقف الذي أردناه وحضوراً لأبناء الشعب الفقراء، الذين ضحوا وقدموا وحملوا السلاح واستشهدوا، ولنعد للماضي حين برمج المثقف شعارات وهمية استغلت للمصالح الفردية والوصول إلى مراكز السلطة، وتم تفريغها من مضامينها، ثقافة الجماهير، الإعلام الجماهيري، الفن والأدب في خدمة المعركة، الثقافة حالة وعي وتحرير المجتمع من أميته ، حينها لم تكن وسائط الاتصال متوافرة فتم التركيز على الصحف والإذاعة، ودور المنظمات، ومحطة تلفازية واحدة، وندوات، ومحاضرات، كلها تصب في الجماهير، ولم نلحظ ذلك التباعد ما بين المطروح والتنفيذ، التقدم والتراجع، الاستغلال والادعاء، حلت الأحداث الدموية فكشفت عن خيبة فجائعية، وبرز الخلل بين المثقف والجماهير، وأن ما كرس له الوقت من تحليل للشعارات ما كان إلا وهماً استغله الفساد، وجيره لمصلحة أفراد تمكنوا من الوصول إلى ما يرغبون، وبدت الثقافة غير نافذة، وليست ضاربة بالجذور، وأول ما بدا هو تلاعب المثقف وهروبه، ولم يظهر ولاؤه لوطنه وشعبه، وفي اختبار سريع ينقلب العلماني إلى الخط الديني مباركاً عنفه ووحشيته، واليساري أمريكي الهوى، وكشفت الأحداث ما يمكن أن نسميه خديعة المثقف التي مارسها، وهؤلاء تمكنوا خلال سنوات طويلة من تغييب المثقف الوطني عن الساحة، وتسلموا إدارات العمل ومفاصله الحساسة، وخربوا وأظهروا الواقع عكس ما هو عليه، فكانت الهوة الكبرى، أين المثقف في الأزمة؟؟ منهم من انضم إلى سيناريو المؤامرة ومنهم من تم شراؤه بالمال الغربي، ومنهم من صمت داخل الوطن ومن قبلها كان صوته يعلو وهو ينتهز ويستغل مقدماً مصالحه عن أي مصلحة وطنية وعامة.
•    ماذا اتضح؟
فكرة طرحتها سنوات الأزمة الأولى، حمل الفقراء راية الوطن دفاعاً عنه، أظهرت الأحداث أمهات بسيطات، عفويات، قدمن البطولة الوطنية بلا تنظير ولا فلسفة، قدمن أولادهن وكن يزددن صموداً مع ازدياد الوحشية والفتك، ووصلتنا أحاديثهن كما هي بشفافيتها .. ضحينا بولدين ونضحي بالبقية، وهؤلاء هم الذين حاصرهم الغلاء المعيشي، والتحليل السياسي المتلاعب بمقدراتهم، والخطاب العام الذي ينفصل عنهم تماماً، وثمة من تاجر بلقمة عيشهم، ودماء أولادهم، لكنهم واجهوا ذلك بالصبر والوطن والإيمان، ماذا كان دور المثقف في هذا الواقع؟ كيف تعامل معه؟ هل طرح حلولاً؟ هل حمل سلاحاً؟ هل نزل إلى الميدان الشعبي ليتابع مع الجماهير آمالها وأحلامها؟ منهم من صمت، والقليل وجدوا طريقهم عبر وسائل الإعلام للتنظير والفلسفة ومادتهم تحتاج أولاً إلى الاقتراب من الناس الذين لا يهمهم ماذا يقولون، ومنهم من راح يسترجع أمجاد الأمة مستشهداً بحضارتها دون تعمق في جذورها، فالموقف يتطلب ذلك وعليه أن يستعجل في إتقان (موضة) الكلام المطلوب، وبعد أن تم تجاوز لقب الدكتور أصبح لقب (الباحث الاستراتيجي) (الخبير الإعلامي)  (المحلل السياسي) أكثر إغراءً، والوصول إليه لا يتطلب شهادة جامعية مزورة أو صحيحة، وها نحن نشهد يومياً أسماء وأسماء وصلت إلى الشاشات بتلك الألقاب، ما  دور المثقف وكيف تفاعل وعمل؟ وما إمكانياته في الوصول إلى الحل؟ بصراحة حتى الآن ونحن في السنة الخامسة للحرب المؤسفة التي تصب دمارها على أبناء الشعب الشرفاء، لم يظهر ذلك المثقف الذي قدم ورقة مقترحاته وقد استمد أفكارها من أرض الواقع الحقيقي وليس من الحمام الصباحي ولا مقهى الكلام وفنجان القهوة، وربطة العنق والبذة الأنيقة، وأصحاب القضية يفتشون عما يأكلون، وجنود الجيش البواسل في الجبهات، وأين أولئك الذين نظروا واغتنوا من شعارات الماضي ثقافة الجماهير، والتواصل الفكري والاجتماعي معها، وعندما أخذنا رأي بعض المثقفين الوطنيين الذين لم يغادروا البلد وصمدوا ومنهم من يعيش بيننا الآن في الساحل السوري، كتاب ومثقفون ومحللون وأساتذة كبار همشوا لأنهم ليسوا قريبين من أصحاب القرار الثقافي والإعلامي، وحضروا بعد أن دمرت بيوتهم في المحافظات الساخنة، وكان بإمكانهم التخلي والفرار لكنهم لم يفعلوا بحكم الانتماء للوطن، يقول المفكر والباحث منير الحافظ الذي حلّ ضيفاً على اللاذقية من محافظة الرقة: إنه يفهم الحياة من الموقف وهو يرمز إلى الأخلاق، ولا يمكن لفاقدها أن يقبل على الحياة كما هي القيم سواء كان مثقفاً أو غير ذلك، وفي الأزمة الأمر يرتبط بالأخلاق .. ويضيف أنه عمل على إيجاد تواصل ما ليبرز دوراً للمثقف في الأزمة، وهذا لا يكفي وحجم المؤامرة كبير ، يقترح إيجاد ورشات عمل ثقافية تناقش من أرض الواقع وليس بعيداً عنه، وتكون مقترحاتها من فكر الناس، والمثقف الحقيقي يدرك الحياة على أنها وقفة تلغي المغريات والأنانيات والمناصب ، وقفة الكبار الذين يحضون عقول الآخرين، وفي الصراع ينبغي أن يتقد العقل وتتحفز قوة الداخل لينقلب كل شيء إلى موقف وينتصر الحقيقي على المزيف ولا بد من ذلك في نهاية المطاف.
•    ثمة فكرة
استوقفتني هذه الفكرة التي نشرها الدكتور نبيل طعمة في افتتاحية مجلة الأزمنة بتاريخ 26/7/2015 بعنوان ( دندنة الخوف) ووجدتها إضافة جديدة في فلسفته التي يتابع بها يقول: (البطل يأخذ شكل الإله المزيف، فإن وصل إلى هذه المرتبة كان ملائكته وعبيده ومريدوه ومؤيدوه المختلفون معه مزيفين، فلا هو بقادر من الخروج من هذا التزييف، وإذا حدث وخرج يكون قد فقد إمكانية إعادة البناء) وإذا دققنا بالفكرة فسنجدها متوافقة مع موقف المثقف الذي طرحناه، وأن المرتبة التي وصلها عجزت عن فعل الحراك وهو الفشل الحقيقي والتزييف الذي كان نتيجة العطب، أليس هو حال المثقف الذي داهمته قسوة الأحداث ووحشيتها، وحلت أكبر من إمكانيته في الاستمرار بتغطية عيوبه ونواقصه التي طالما تستر عليها، وحين هوجم بالحقيقة سقط القناع عن وجهه، ولا بد أن ثمة مثقفين وطنيين هم أكبر بكثير من حجم الكارثة وسيعملون على إعادة البناء. 
•    آراء مختلفة
حقيقة سمعنا آراء كثيرة في موضوع المثقف، ولغة القتل هي السائدة بين الجماعات الإرهابية بمختلف أشكالها وتطرفها، وإذا كنا قد تمكنا من كشف الذين تزيفوا فعلينا أن نبادر الآن للبحث عن الحقيقي الرافض للانهزام، وأن نسارع للتخطيط لثقافة بحجم الحرب واستثمار طاقات مغيبة بحسن نية أو سوئها، ولا بأس أن نوازن بين استمرارية للحياة تتوافر ضمن الإمكانية المتاحة وبين اجتهادات وأعمال من الواجب دراسة أهدافها والغاية منها، ولا يكفي الإعلان عن تقديم أكبر سندويشة شاورما أو أكبر قرص سوركي، ومحاضرات تلقى هنا وهناك، ينبغي دخول المثقف إلى الميدان العسكري والاجتماعي والجماهيري، وأن نبعد الثقافة عن الشعار ونطلقها، ثقافة للحرب والسلم والأمر يقتضي المبادرة، وكما في الجيش العربي السوري شهداء يجب أن يكون للثقافة والإعلام والندوات الشهداء أيضاً، وأن يجرى الفرز الذي يشمل الجميع، يقدم إلى الواجهة من استحقوها بجدارة ويطلق عليهم المثقف الوطني الذي يعتمد عليه بإعادة البناء، ويا لها من مهمة شاقة ، وسنجدهم الشرفاء من المثقفين يداً بيد للتنفيذ مع أبناء الشعب ولا صعوبة حين يتوحدون وهم صناع المستحيل.