مع مجاراة الفدرالي الأميركي.. ما تداعيات

مع مجاراة الفدرالي الأميركي.. ما تداعيات "أمركة" الاقتصاد العالمي؟

مال واعمال

الجمعة، ١٦ ديسمبر ٢٠٢٢

اتبعت البنوك المركزية في أوروبا والخليج خطوة مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، الأربعاء، في رفع أسعار الفائدة بنسبة 0.5 نقطة مئوية.
وقام كلّ من بنك إنجلترا والبنك المركزي الأوروبي، عقب قرار الفيدرالي الأميركي، برفع أسعار الفائدة بمقدار 0.5 نقطة مئوية، في اجتماعاتهما الأخيرة لهذا العام.
كما رفع البنك المركزي السعودي، والمصرف المركزي لدولة الإمارات العربية المتحدة، ومصرف البحرين المركزي، ومصرف قطر المركزي أسعار الفائدة الأساسية بنسبة 0.5 نقطة مئوية، مباشرة بعد القرار الأميركي.
ويأتي ذلك في سياسة اتبعها البنك الفيدرالي الأميركي لمواجهة التضخم، الذي بلغ مستويات قياسية في الولايات المتحدة في وقت سابق هذا العام، إذ وصلت نسبته إلى 7.7% في وقت سابق، قبل أن تستقرّ عند 7.1% بحسب الأرقام الرسمية في آخر تشرين الثاني/نوفمبر.
كما وصل مؤشر أسعار المستهلك الأميركي، وهو مقياس أكثر تحديداً لمدى تغيّر الأسعار على المستهلك بشأن عينة أساسية من متطلبات المعيشة، إلى مستويات قياسية بلغت 9.1% بالإجمال، وفاقت في بعض المجالات، كالمحروقات، ال 50%.
كذلك، بلغ معدل التضخم السنوي في أسعار المستهلكين في المملكة المتحدة 10.7٪ في تشرين الثاني/نوفمبر؛ وفي أوروبا، ارتفعت أسعار المستهلك بنسبة 10٪ في العام حتى تشرين/الثاني/نوفمبر.
وتقيس هذه المؤشرات شهرياً أسعار البضائع المعنية بالدراسة، مقارنة بأسعارها السابقة قبل شهر، وتقارنها بفارق الأسعار في نفس الفترة من السنة التي سبقتها، ويدخل مؤشر أسعار المستهلك كعنصر أساسي في تحديد نسبة التضخم العام في البلاد.
ما هو التضخم في الاقتصاد؟
يسعى مؤشر التضخم الاقتصادي إلى قياس الارتفاع في أسعار السلع والخدمات عبر الاقتصاد في بلد ما على مدى فترة محددة. والتضخم يظهر من خلال تآكل القوة الشرائية لكل من المستهلكين والشركات، أما أهم علاماته فهو ازدياد حجم العملات المتداولة في المعاملات التجارية.
ما هي الفائدة؟
هي ببساطة "سعر المال"، أي المقدار الذي يدفعه طرف ما مقابل استدانة المال من طرف آخر.
لماذا ترفع البنوك سعر الفائدة في مواجهة التضخم؟
حين يريد البنك المركزي امتصاص المال من السوق، بغية تخفيض مقدار التعاملات الاقتصادية، يقوم برفع سعر الفائدة، لأنّ أصحاب المال سيرغبون أكثر باستثمار أموالهم عبر إيداعها في البنك الذي سيدرّ عليهم أرباحاً أعلى مع أسعار الفائدة المرتفعة.
ويعدّ هذا الإقراض من المستثمرين للبنوك استثماراً قليل المخاطر مضمون الأرباح، كما يؤدي إلى سحب الكتلة النقدية من التعاملات التجارية في السوق، وتخفيض السيولة.
وتسعى البنوك المركزية غالباً، ما خلا بعض الظروف والاعتبارات الخاصة والاستثنائية، للحفاظ على قيمة عملتها، فتحاول أن لا يصبح التضخم مضمناً في الاقتصاد، أي لا يصبح "طبيعياً" فيعتاد الناس على أن يدفعوا المزيد مقابل الخدمات ذاتها.
كذلك، يعني رفع سعر الفائدة أنّ الاقتراض من البنك سيصبح أكثر كلفةً، مما سيخفّض من مقدار سحب الأموال من البنوك لاستثمارها في السوق، ما يفترض أن يساهم بشكل إضافي في امتصاص الكتلة النقدية من السوق والضغط باتجاه تخفيض التكلفة وترشيد الاستهلاك.
ما هي مخاطر رفع أسعار الفائدة؟
لا يأتي التدخل في السوق لتخفيض نسب التضخم من دون مخاطر، إذ تأتي عملية امتصاص الكتلة النقدية من التداولات وتخفيض نسب الاستثمار محفوفة بتهديدات كبرى مرتبطة بحصول ركود اقتصادي.
 
والركود، وهو أشدّ من الانكماش وأضعف من الكساد، هو اشتداد في درجة تباطؤ الاقتصاد، أي انخفاض الطلب والتداول الاقتصادي الناتج بشكل أساسي عن غياب السيولة والاستثمار، ما يجرّ خلفه بشكل تدريجي انخفاضاً في أسعار الخدمات والسلع والأجور، ويؤدي اشتداده إلى أزمة اقتصادية عميقة.
 
هل تتجه أوروبا نحو الركود؟
يحذّر خبراء الاقتصاد الأوروبيون من أنّ الكفاح من أجل لجم التضخّم في القارة الأوروبية يضغط بشكل متزايد على الاقتصاد المتباطئ، لا سيما بعدما أشارت دراسات عدة إلى أنّ المملكة المتحدة تنزلق بالفعل إلى الركود، وأنّ أوروبا لن تكون بعيدة عن الركب.
 
إذ قال البنك المركزي الأوروبي اليوم، بحسب شبكة "سي إن إن"، إنّ الناتج المحلي الإجمالي في 19 دولة تستخدم اليورو قد ينكمش في هذا الربع والربع التالي، بسبب ارتفاع أسعار الطاقة واستمرار ارتفاع درجة المخاطر في الاستثمار، أو ما يسمى بـ"عدم اليقين"، يضاف إليه مشاكل ضعف النشاط العالمي وتشديد الأوضاع المالية.
 
وبالرغم من أنّ توقعات البنك المركزي الأوروبي رجّحت أنّ الركود "سيكون قصير الأجل وضحلاً نسبياً"، لكنّ هذا التصريح غالباً ما لا يمكن فصله عن وظيفة البنك، إذ أنّ تصريحات بأنّ الركود سيكون قاسياً قد تؤدي بالفعل إلى تسريع الوصول إليه وتفاقم شدّته.
وأشار كلا البنكين المركزيين، الأميركي والأوروبي، إلى أنهما يتوقعان الاستمرار في رفع أسعار الفائدة في العام الجديد للحفاظ على تراجع التضخم إلى أهدافهما البالغة 2٪ـ، فيما تظهر تقديرات البنك المركزي الأوروبي للتضخم أنه سيبلغ متوسطاً نسبته 3.4٪ في عام 2024 و 2.3٪ في عام 2025.
لماذا الإصرار على مجاراة المركزي الأميركي؟
ويأتي هذا الإصرار على رفع الفائدة برغم المخاطر المرتفعة بشكل أساسي ليعبّر عن تبعية اليورو سياسياً للدولار الأميركي، وارتباط سياسات القارة العامة بالسياسات الأميركية، التي وإن كانت تخشى حصول انكماش اقتصادي في الولايات المتحدة، ولكنها تعلم أن نسبه ومخاطره ستكون أقلّ بكثير من نظيراتها في القارة الأوروبية، بسبب اعتماد الأخيرة بشكل كبير على النفط والغاز المستورد، وعلى الاستيراد من الصين.
إذ إنه في حال مخالفة البنوك المركزية الأوروبية للتوجهات الأميركية، فإنّ رأس المال الأوروبي سينزح بشكل تلقائي إلى البنوك الأميركية، وهو ما لا تفرض عليه أوروبا أي معيقات أو ضرائب مانعة، فتجد أوروبا نفسها مضطرة لمجاراة الاقتصاد الأميركي القادر على امتصاص كتلتها النقدية في حال امتنعت بنوكها عن رفع أسعار الفائدة على الدين.
هل يوجد أزمة تضخم في دول الخليج؟
في الواقع، فإنّ التضخم في دول مجلس التعاون الخليجي سجّل أرقاماً أقلّ بكثير من نظيراتها في أوروبا، المملكة المتحدة والولايات المتحدة.
وبلغ التضخّم في حدّه الأقصى في دول الخليج 4%، كما بلغت الزيادات على السلع الرئيسية ولا سيما الكهرباء والطاقة نسباً ضئيلةً، بسبب الدعم الحكومي من جهة والتأثّر بشكل أقلّ بالجائحة والعقوبات الغربية على روسيا، والتي ساهمت بشكل كبير في تفاقم أزمة الغرب الاقتصادية بسبب ارتفاع أسعار الطاقة.
ولكنّ مجاراة الدول الخليجية للسياسات الاقتصادية الأميركية تنبع بشكل أساسي من أنّ سلعتها الأولى، أي النفط والغاز، مسعّرين بالدولار، أي أنّ قيمتهما يحددها الدولار الأميركي، الذي ترتبط قوته بإجراءات بنك الحتياط الفيدرالي الأميركي الذي يدير السياسات المالية للولايات المتحدة.
فتغدو مصلحة هذه الدول مرتبطةً بشكل كبير بقدرة الدولار على الحفاظ على قيمته مقابل العملات الأخرى، وإن كانت المشاكل التي تهدد اقتصاد الولايات المتحدة لن تمسّها بشكل مباشر، ولكنّ سياساتها الاقتصادية تقوم على مواكبة سياسات الفيدرالي الأميركي بما يناسب، حتى ولو أدّى ذلك إلى أضرار في الاقتصاد المحلي.
عبء "أمركة" الاقتصاد العالمي يزداد ثقلاً
تظهر السياسات الدولية التي تبعت التصعيد الأميركي-الغربي ضدّ روسيا في أوكرانيا، مطلع هذا العام، إرهاصات تذمّر من قبل مسؤولين وتيارات في الدول المرتبطة عضوياً بواشنطن لجهة سياسة التبعية العمياء، والتي بعد أن كانت تعني بشكل خاص عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، تحصيل مكاسب جراء اللحاق بالاقتصاد الأميركي، باتت اليوم تعني تحمّل أعباء الولايات المتحدة ومشاكلها الاقتصادية.
ففي ظلّ مخاطر الركود العالمية وتهديداتها، تبدو الولايات المتحدة مستعدة للمخاطرة بالاقتصاد العالمي أن ينكمش أو يدخل في ركود اقتصادي نتيجة سياسة الفائدة المرتفعة، مقابل أن تنقذ الولايات المتحدة من تضخّم كبير.
إذ ترفض واشنطن أن تعالج التضخم عبر زيادة الأجور، فضلاً عن استعدادها لتحميل الأميركيين ضريبة انخفاض قدراتهم الشرائية ومستوى معيشتهم كعبء للسياسات الخارجية الأميركية وحروبها.
كما تفضّل الولايات المتحدة تجنّب الدعم الحكومي للقطاعات الاقتصادية، ولكنّها وجدت نفسها مؤخراً مرغمة تحت ستار دعم خطط مواجهة تغيّر المناخ، أن تصرف خطة تفوق 400 مليار دولار، أي "خطة بايدن المناخية"، لدعم الصناعات المتطورة في الولايات المتحدة، مما قد يشكّل ضربة قاضية لما بقي من الصناعات الأوروبية الصامدة حتى الآن أمام أزمة الطاقة والتضخم، وهو ما اضطرّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ومعه مسؤولون أوروبيون كثر إلى رفع الصوت ضدّ هذه الخطة واعتبارها كارثية للاقتصاد الأوروبي.
فهل تحمل الفترة المقبلة مزيداً من الأزمات العالمية الناشئة عن ارتباط اقتصادات الدول عضوياً بالدولار الأميركي؟