المستهلك السوري يسدد الفاتورة الباهظة .. كدنا نجوع عندما كسرنا العصا ووقعنا في غواية الليبرالية

المستهلك السوري يسدد الفاتورة الباهظة .. كدنا نجوع عندما كسرنا العصا ووقعنا في غواية الليبرالية

مال واعمال

الأحد، ٢٦ أبريل ٢٠٢٠

أسواق
منذ عقد ونيف من الزمن وليس مجرد اليوم..خرجت لوحة التحكّم بالسوق والأسعار من يد الدولة رسمياً، وبالتحديد منذ الانحدار في متاهات “اقتصاد السوق الاجتماعي”..فالحدث حينها كان صاخباً تلاشى صداه بإعلان ” نعية” وزارة التموين التي تحوّلت صلاحياتها كتركة غير مرغوب فيها لوزارة الاقتصاد والتجارة حينها..وكان أول وزير يتولى “الحقيبة الهجينة” بين الاقتصاد والتموين هو الدكتور غسّان الرفاعي، القادم حينها بحماس اقتصادي بحت من حنايا البنك الدولي..وهو الذي بدا صريحاً من البداية عندما عندما باغتنا  بجواب على سؤال وجهناه له في سياق حوار صحفي ..”لست مستعداً للعمل كمراقب تموين”.
الجواب كان بدهي لشخص يدّعي الليبرالية، وبدا حريصاً على التميّز بها كعلامة فارقة له، وسط أجواء تسارع في الأروقة التنفيذية وسباق للخروج من عباءة الاشتراكية ونفضها بعيداً كخيار بات للتو- حينها –  تهمة بقرار صدر و “أفهم علناً” تبنّاه المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث…في التقاء نادراً ما يحصل في وجهات النظر بين “البعث” كإيديولوجيا  و أدبيّات رأس المال كتطبيق.
المهم بعد سنوات وفي اعتراف متأخر – وعلى مضض – من جانب وزارة الاقتصاد بأن هناك مشكلة ارتفاع أسعار في الأسواق المحلية، سارعت على عجل للملمة الموقف وتشكيل بدعة النشرات التأشيرية، التي أتت مريبة وكأنها جرت باتفاق ضمني مع كبار المحتكرين، لأنها قوننت ارتفاع الأسعار ورسخته ولم تؤدِّ إلى تخفيض فعلي، والشاهد ثبات أسعار أغلب المواد في النشرات التأشيرية المتلاحقة الصادرة بمهرجانات إعلامية تخدم الوزارة ذاتها أكثر من كونها ساحة للدفاع عن مستهلك أنهكته نفقاته المتزايدة، لتبحث هي ذاتها عن إستراتيجية الحرب المفتوحة ليس على كبار التجار كما يفترض المنطق الصحيح، والذين لهم الكلمة الفصل في تسعير مواد النشرة بل على الصغار منهم، فلا صلاحيات لها على عمالقة احتكار مواد السلة الغذائية للمستهلك السوري، كما تدعي، ولا هي باحثة عن صلاحيات كهذه بالأساس…
دارت الدوائر وتتالت المحاولات والمتغيرات الحادة..لتعود وزارة التموين القديمة تحت اسم طنّان هو ” وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك”..إلا أنها عادت مشوّهة مقلّمة الأظافر حسبها أن تنهض بكيانها لتبرر وجودها كوزارة ..فهي لم تدافع عن نفسها عندما تمّ اكتشاف أمر عجز أدواتها وصلاحياتها عن ضبط الأسواق…وما زالت تكابر حتى هذا اليوم.
الآن في أزمتنا المعقّدة والمديدة بتبعاتها مهما حاولنا التفاؤل، لا بدّ من فعل شيء ما يبرر بقاء ذلك الهيكل العملاق – قليل الفعالية – الذي اسمه وزارة التجارة الداخلية و يحتلّ حيزاً كبيراً ..هناك مقابل مجمّع ابن النفيس العريق، ويكابر على أي علاج ممكن..ونشهد بأن ثمة محاولات جرت، لكنها لم تكن ذات أثر عميق في السوق..لذا لا بد من حراك باتجاه ما، فالأسواق لم تعد أسواق..بل حلبة صراع وليس تنافس، خصم المتخاصمين فيه هو المستهلك الذي بات بلا مظلة واقية كتلك التي استرخى في ظلالها لعقود طويلة من الزمن؟
الآن آن الأوان كي تعيد الوزارة هيكلة الأسعار إما من خلال إلغاء التحرير والعمل بسياسة تجميد الأسعار، فسياسة تجميد الأسعار اتبعت بفرنسا منذ عام 1936 – 1986 بهدف التغلب على معدلات التضخم المرتفعة، عبر وضع السعر بقرار حكومي كنظام التموين، ليتقرر بعد نجاح هذه السياسة اتباع سياسة السعر الثابت، حيث تنمو الأسعار بالتوازي مع نمو معدلات الدخل لردم الفجوة بين الأسعار والدخل، وهذا ما يجب أن تفكر به ” وزارة المستهلك” كإستراتيجية، والأدوات متوفرة بأيديها لتطبيق تلك السياسة إذا ما أرادت..
ولم يفهم أي متابع لماذا لم يبادر القئمون على هذه الوزارة منذ بداية الحرب على البلاد، إلى تعديل التشريعات الناظمة لعملها، بما يمكنها من لعب الدور القديم الذي كانت تلعبه طيلة عقود طويلة من الزمن، إذ بعضهم ارتأى أن ذلك لا يجوز على اعتبار أنه سيحدث خللاً وتشوُّهاً في الاقتصاد ، وكأن اقتصادنا غير مشوَّه بفعل الحرب، رغم أن المسلّمات تؤكّد أن الاقتصاد – أي اقتصاد – في أوقات الأزمات هو اقتصاد مشوَّه، ولذلك نحن نحتاج إلى إجراءات استثنائية لفترة معينة إلى أن تنتهي آثار الأزمة، وبعدها نعود لسياسة التحرير إن كنا مصرين عليها ولا بدّ، فاللجوء للإجراءات الاستثنائية يتم في الأوقات الاستثنائية..
 بينما يُستشار كبار التجار وأصحاب رؤوس الأموال في صناعة القرار الاقتصادي، نجد أن وزارة التجارة الداخلية تصرّ على حثّ السوريين على تقديم شكواهم بحق تجار المفرق الذين يتجاوزون أسعار نشراتها، وكأنهم جذر مشكلة الأسعار، وتحاول بذلك إيقاف السوق على رأسها بدلاً من قدميها، حيث بات واضحاً منذ سنوات أن هناك محاباة للتاجر الكبير الذي لا يعاقب – وقانون المنافسة ومنع الاحتكار شاهد – بينما يعاقب تاجر المفرق، فالقوانين تهدف إلى الحفاظ على بنية الأسعار، والتاجر الكبير هو القاعدة الأساسية التي يجب مراقبتها، وهو من يجب عليه أن يلحق بالبيئة الاقتصادية بدلاً من وضع البيئة الاقتصادية بما يتناسب معه، وهذه فوضى وليست اقتصاداً، فالبنية الراهنة للاقتصاد السوري تسمح بتعزيز الاحتكارات، ولا وجود فيها لضوابط تمنع الاحتكار على الرغم من وجود قانون لذلك، بل إن هناك محاولة لإزالة المنافسة بفعل هذا الاقتصاد الاحتكاري، ولذلك يجب تحديد ملامح بنية جديدة، أما بالنسبة للتاجر الصغير، فيجب السعي لتوحيد الأسعار في الأسواق المختلفة..
الصراع بات علنياً لتسعير المواد التجارية التي تمس مصالح المستوردين والتجار، بينما لا أحد يقاتل من أجل المواد الزراعية التي لا تجد من يحميها أو يدافع عنها، لأن الموضوع يرتبط بالربح، فالربح هو المحرك الأساسي لعمل رأس المال، وحيث يوجد الربح الأكبر يوجد قتال أكثر، فالزراعة ليست قطاعاً ذا ربحية عالية، لذلك لا أحد يهتم بها…
فكما تقف توازنات المصالح عائقاً في وجه التحول شرقاً رغم الحاجة الاقتصادية الماسة إليه بعد حوالي 10 سنوات من بدء الأزمة الوطنية الشاملة التي تمر بها البلاد، نجد أنها هي العوائق ذاتها التي تمنع تطبيق استراتيجيات فعالة لضبط الأسواق، والتي تتطلب توفر النيات الصادقة، والقرار المتجاوز لكل المصالح الذاتية التي تفوح منها رائحة الفساد المستفيد من فوضى الأسعار في الأسواق السورية…
باختصار ..الحل يكمن في سلوك ذات الطريق الذي سلكناه للوصول إلى ما وصلنا إليه من فوضى السوق، لكن باتجاه راجع للوصول إلى ما كانت عليه الأمور قبل قرار تحرير الأسعار و إلغاء الرقابة التموينية، وإطلاق قوى السوق ” ترفس بعضها بعضاً”..حتى نصل إلى التسعير المركزي للسلع، وتحويل القضايا التموينية إلى محاكم مختصّة – كان القضاء العسكري هو صاحب الاختصاص يوماً – ولا ننسى أن الأهم هو تعديل التشريع الناظم لعمل الوزارة، باتجاه إعطائها المزيد من الصلاحيات..
فضبط الأسعار بات مسألة أمن اجتماعي ومجتمعي، ولا يجوز أن نتعاطى معها كمجرد خلل بسيط يعتري السوق يمكن أن نصوبه عبر تهويل التصريحات والتلويح بعصا مكسورة في وجه متلاعبين، أدركوا تماماً نقاط الضعف وتجاوزوا كل أدبيات التجارة وحتى الأخلاق.
هامش1: المشكلة الأساس تكمن في أسواق الهال..
هامش2: لا يحصل المنتج إلا على نسبة زهيدة من الأسعار التي يباع بها إنتاجه للمستهلك.
هامش3: لا تقل “يومية” أي محل معد لبيع الخضار عن 15 ألف ليرة يومياً..وتصل إلى 70 ألف ليرة في اليوم لدى بعضهم.