هل تستطيع الصين شن حرب مالية ضد أمريكا؟

هل تستطيع الصين شن حرب مالية ضد أمريكا؟

مال واعمال

الأحد، ١٧ نوفمبر ٢٠١٩

"إن الحرب بين الولايات المتحدة والصين قد تبلغ من شدة الدمار لكلا البلدين ولشرق آسيا وللعالم ما يجعلها تبدو غير مقبولة للعقل. إلا أنها ليست كذلك: فالصين والولايات المتحدة مختصمان حول العديد من النزاعات الإقليمية التي قد تؤدي إلى مواجهة عسكرية أو حتى عنف بينهما. ولدى كلا البلدين حشود كبيرة من القوات العسكرية التي تعمل في مناطق متقاربة".
 
الفقرة السابقة هي جزء من مقدمة بحث أعده مركز الأبحاث الأمريكي "راند" لصالح الجيش الأمريكي تم نشره في يوليو من عام 2016 تحت عنوان "War with China: Thinking Through the Unthinkable" أو "الحرب مع الصين: التفكر في ما لا يتقبله العقل".
 
لكن هل بالضرورة أن تكون الحرب المحتملة بين أمريكا والصين حرب عسكرية تقليدية؟ قبل صدور تلك الدراسة بحوالي ثلاث سنوات وتحديداً في فبراير من عام 2013 قال الرئيس الأمريكي السابق "باراك أوباما": "إن أعداءنا يسعون الآن لاكتساب القدرة على تخريب مؤسساتنا المالية... لا يمكننا أن ننظر للأمر بعد سنوات من الآن ونتساءل لماذا لم نفعل شيئًا في مواجهة التهديدات الحقيقية لأمننا واقتصادنا".
 
على الجانب الآخر كان الصينيون أكثر وضوحاً في تبيان عقيدتهم القتالية الجديدة. في كتاب نشر في عام 1999 تحت عنوان "الحرب غير المقيدة"، حيث كتب "كاي ليانج" و"وانج شيانج" العقيدان في جيش التحرير الشعبي الصيني العبارة التالية:
 
"إذا كان من الممكن أن يتم شن حرب من غرفة كمبيوتر أو من البورصة باستطاعتها جعل دول معادية في الحضيض، فهل يوجد أي مكان بالعالم لا يمكن اعتباره ساحة محتملة للقتال؟... إذا سأل شاب صغير اليوم أين هي ساحة المعركة فإن الجواب سيكون: في كل مكان".
 
حرب المستقبل .. رجل البنتاجون الغامض
 
أحد الأهداف الرئيسية للحرب يتمثل في تقويض إرادة العدو وقدرته الاقتصادية. وقد يدهش البعض معرفة أن تدمير ثروة الخصم من خلال شن هجوم ضده في سوق المال ربما يكون أكثر فاعلية من إسقاط أطنان من القنابل والصواريخ عليه. باختصار الحرب المالية هي مستقبل الحرب، وحتى مارس الماضي لم يكن هناك من يفهم هذه الحقيقة في العالم أكثر من مسؤول وزارة الدفاع الأمريكية الغامض "آندي مارشال".
 
في صباح يوم خريفي ممطر في شهر سبتمبر من عام 2012 جلس "آندي مارشال" على طاولة الاجتماعات بإحدى قاعات المؤتمرات المؤمّنة داخل مبنى البنتاجون. وأمامه على نفس الطاولة جلس ثلاثة مديرين للاستثمار بارزين إلى جانب ثلاثة من مسؤولي البورصة الأمريكية ومجموعة من الخبراء الاستراتيجيين. هذه المجموعة المختارة بعناية كانت مجتمعة لمناقشة الحرب المالية.
 
بعد ساعة من الصمت التام، قطع "مارشال" حديث أحد الحاضرين قائلاً "هذا شيء مثير جداً للاهتمام" وذلك تعليقاً منه على المناقشة الدائرة حول تخزين الصين للمزيد من الذهب وإمكانية استخدامه كسلاح مالي في تقويض قيمة الدولار.
 
لكن قبل متابعة هذا الحديث، قد يتساءل البعض من هو "آندي مارشال" أصلاً؟ حتى لحظة وفاته في مارس الماضي عن عمر ناهز السابعة والتسعين كان جميع المسؤولين الأمريكيين ينادونه باسم "السيد مارشال" كنوع من الاحترام. لقبه الرسمي كان مدير مكتب التقييم الصافي وهو مركز أبحاث تابع لوزارة الدفاع الأمريكية.
 
ولكن بشكل غير رسمي كان "مارشال" هو كبير الاستراتيجيين بالبنتاجون، فقد كان الرجل المسؤول عن استشراف المستقبل وتقييم التهديدات المحتملة للأمن القومي الأمريكي. وشغل "مارشال" هذا المنصب منذ عام 1973، واحتفظ به في ظل 8 رؤساء حتى وفاته المنية في السادس والعشرين من مارس الماضي.
 
على مدار حياته لم يتمتع "مارشال" بشهرة كبيرة وسط العامة، واكتنفت شخصيته غموضًا كان يتعمده. فمقابلاته الصحفية أو خطبه التي ألقاها أمام الجمهور طوال حياته تعد على أصابع اليد الواحدة، كما أنه لم يكن يظهر كثيرًا في الأماكن العامة، وكانت كل كتاباته مصنفة تحت بند "سري جدًا" من قبل وزارة الدفاع.
 
وعلى الرغم من أن معظم الأمريكيين لم يسمعوا عن "آندي مارشال" إلا أن الجيش الصيني يعرفه جيداً، لأسباب كثيرة من بينها دوره في تقديم نظرية "الثورة في الشؤون العسكرية" (RMA) التي تدور حول مستقبل الحرب ودور تكنولوجيا المعلومات المعاصرة والاتصالات السلكية واللاسلكية وتكنولوجيا الفضاء في الصراع العالمي القادم.
 
دون إطلاق رصاصة واحدة
 
في حديثه لمجلة "الإيكونوميست" قال الجنرال الصيني "تشن تشو" المؤلف للعديد من الدراسات والأبحاث الاستراتيجية الصينية "لقد درسنا نظرية الثورة في الشؤون العسكرية بدقة. كان بطلنا العظيم هو مسؤول البنتاجون آندي مارشال.. لقد ترجمنا كل كلمة كتبها".
 
في الحقيقة إن "مارشال" كان هو المهندس الرئيسي للخطة الأمريكية للحرب المحتملة ضد الصين في غرب المحيط الهادئ. تتضمن هذه الخطة السرية والتي يطلق عليها اسم "Air-Sea Battle" أو "معركة البحر والجو" كيفية اختراق الجيش الأمريكي لأنظمة المراقبة الصاروخية الصينية وتضليل صواريخها الدقيقة، قبل أن يشن هجومًا بحريًا وجويًا كاسحًا.
 
بالعودة إلى اجتماع البنتاجون، نجد أن "مارشال" لم يتم إطلاعه حول أي أسلحة حركية أو تكتيكات عسكرية تعد لها الصين، بل كان كل ما سمعه يتركز حول سلوك صناديق الثروة السيادية الصينية وإقبال بكين الضخم على شراء الذهب، والتهديدات المحتملة للأمن القومي بسبب سياسات مجلس الاحتياطي الفيدرالي.
 
تمتلك الصين أكثر من 3 تريليونات من الاستثمارات المقومة بالدولار الأمريكي، مما يعني أن الفيدرالي الأمريكي لو تعمد على سبيل المثال خفض قيمة الدولار بنسبة 10% فسوف يمثل هذا تحويل لثروات حقيقية بقيمة 300 مليار دولار من الصين إلى الولايات المتحدة. وحركة مثل هذه من غير المرجح أن تتسامح معها الصين.
 
الصين إذا لم تكن قادرة على هزيمة الولايات المتحدة في البحر أو الجو فقد تهاجمها من خلال أسواق المال، وهو ما تلمح إليه عقيدة "الحرب غير المقيدة" الصينية والتي تشمل الحرب المالية والحرب الإلكترونية إلى جانب الحرب العسكرية التقليدية.
 
في عام 1995 نشر مدير قسم التخطيط الاستراتيجي بأكاديمية العلوم العسكرية في بكين اللواء "وانج بوفنج" ورقة تحت عنوان "تحدي حرب المعلومات". في مقدمة الورقة التي أشاد خلالها بـ"آندي مارشال" كتب "وانج" الآتي:
 
"في المستقبل القريب، ستسيطر حرب المعلومات على شكل الحرب. نحن ندرك هذا الاتجاه المتطور لحرب المعلومات ونراه قوة دافعة في تحديث استعداد الصين العسكري والقتالي. هذا الاتجاه سيكون حاسمًا للغاية لتحقيق النصر في حروب المستقبل".
 
جعل الجيش الصيني هذا المبدأ أكثر وضوحاً في كتاب "الحرب غير المقيدة" الذي نشر قبل 20 عاماً. وتتضمن الحرب غير المقيدة من وجهة نظر العسكريين الصينيين طرقًا عديدة لمهاجمة العدو دون استخدام الأسلحة الحركية مثل الصواريخ والقنابل وإنما باستخدام الهجمات الإلكترونية التي يمكنها إيقاف الطيران وفتح البوابات وقطع التيار الكهربائي والإنترنت.
 
أزمة 97 .. الصين تستعد للحرب
 
أكثر ما يلفت النظر في كتاب "الحرب غير المقيدة" هو فصله الثاني. وتكمن أهمية هذا الفصل في أنه يوضح وجهة النظر الصينية في الأزمة المالية الآسيوية التي وقعت عام 1997 في تايلاند وإندونيسيا وماليزيا وكوريا الجنوبية وسنغافورة.
 
وفقاً للكتاب فإن جزءًا كبيرًا من هذه المحنة كان نتيجة قيام المصرفيين الغربيين بسحب أموالهم الساخنة فجأة من البنوك والأسواق الآسيوية الناشئة، وهو ما تسبب في خلق أزمة فاقمتها النصيحة الاقتصادية السيئة التي كان يعطيها صندوق النقد الدولي لتلك الدول. أي أن الأمر كان مؤامرة غربية.
 
ورغم أن الصين كانت من أقل الدول الآسيوية تأثراً بالأزمة إلا أنها درست كل تفاصيلها بعناية لتكتشف كيف يمكن لمجموعة من البنوك الغربية الكبرى بالتعاون مع صندوق النقد الدولي أن تتحكم في اقتصادات بعض البلدان بشكل يجعلها قادرة ربما على تغيير أنظمتها السياسية.
 
تمثل رد الفعل الصيني الأولي على الأزمة في اللجوء إلى تكوين احتياطيات هائلة من الدولار حتى لكي لا يبقى الاقتصاد عرضة لأزمة كبيرة إذا قررت البنوك الغربية فجأة الانسحاب من السوق المحلي. بينما تمثل رد الفعل الثاني في تطوير الصينيين لعقيدة الحرب المالية.
 
طور الصينيون عقيدة الحرب المالية الاستراتيجية في عام 1999 استجابة للصدمة التي أحدثتها أزمة 1997 وفي المقابل لم يتخذ التفكير الأمريكي في الحرب المالية شكلاً ملموسًا إلا بعد 10 سنوات وتحديداً في عام 2009، وذلك استجابة لصدمة مالية أكبر وهي الأزمة المالية العالمية التي وقعت في عام 2008.
 
بحلول عام 2012 انخرطت كل من الصين والولايات المتحدة في جهود مكثفة لتطوير الأسس الاستراتيجية والتكتيكية للحرب المالية. وفي هذا السياق تم اجتماع سبتمبر 2012 الذي حضره "آندي مارشال" بمقر البنتاجون، والذي تم خلاله إطلاعه على التهديد الناشئ.
 
استهداف أسواق الأسهم
 
الحرب المالية مثلها مثل أي حرب لها جوانب دفاعية وأخرى هجومية. وعلى سبيل المثال تتضمن الجوانب الهجومية إطلاق هجمات ضارة على الأسواق المالية الخاصة بالعدو تهدف إلى تعطيل التداول وتدمير ثروة المتداولين. بينما تشمل الجوانب الدفاعية أشياء مثل نظم الاكتشاف المبكر للهجمات والتعامل السريع معها وهو ما قد يتطلب إغلاق السوق مثلاً.
 
من بين أساليب الهجوم أيضاً أن يتم زرع كيان مالي في سوق الدولة المعادية، على أن يقوم في البداية بالتداول في السوق بشكل عادي حتى يكتسب الثقة قبل أن يقوم فجأة بإغراق نظام التداول بأوامر بيع وشراء خبيثة ومتلاعبة.
 
الخوادم والمحولات وكابلات الألياف الضوئية التي تمثل عصب نظام وحركة التداول بالسوق هي أيضاً من بين الأهداف المحتمل استهدافها في إطار الحرب المالية من خلال الهجمات الإلكترونية وعمليات القرصنة التي يمكنها إحداث فوضى تتسبب في إغلاق السوق لفترة.
 
يمكن أن تؤدي الهجمات الأكثر شمولاً إلى إغلاق السوق لأسابيع أو حتى لأشهر. وعلى الرغم من أن أزمة 2008 لم تكن نتيجة الحرب المالية إلا أنها أظهرت للمسؤوليين الأمريكيين مدى تعقيد النظام المالي العالمي وضعفه في الوقت ذاته.
 
في غضون عام ونصف العام فقط هي المدة الفاصلة بين أكتوبر 2007 ومارس 2009 تم تدمير ما يقرب من 60 تريليون دولار من الثروة. وإذا كانت هذه الخسارة الهائلة ناتجة عن استخدام سيئ لأدوات مالية مثل الرهون العقارية، فتخيل مقدار الضرر الذي يمكن أن تسببه حرب مالية يتم خلالها التلاعب في السوق من قبل خبراء يعرفون بالضبط كيف يعمل النظام المالي!
 
وربما أفضل ما يُختم به هذا التقرير العبارة التي ذكرها العقيدان الصينيان في نهاية الفصل الثاني من كتابهما "الحرب غير المقيدة" والتي يلخصان فيها الدروس المستفادة من الأزمة المالية الآسيوية في عام 1997 كما في الفقرة التالية:
 
"لقد تحول الرخاء الاقتصادي الذي لطالما أثار إعجاب العالم الغربي إلى كساد، تماماً مثل ورقة الشجر التي أسقطتها رياح الخريف في لحظة.. والأهم من ذلك هو أن الهزيمة على الجبهة الاقتصادية تؤدي إلى انهيار شبه تام للنظامين الاجتماعي والسياسي".