هل فجّرت سويسرا أزمةً مالية عالمية على غِرار أزمة العام 2008؟

هل فجّرت سويسرا أزمةً مالية عالمية على غِرار أزمة العام 2008؟

مال واعمال

السبت، ١٧ يناير ٢٠١٥

في خطوةٍ وُصفت بالصادمة، قرر البنك المركزي السويسري وقف العمل بسقف سعر صرف اليورو أمام الفرنك وقد كانت الخطوة مفاجئة للجميع من مستثمرين في القطاع المصرفي الى بنوك الإتحاد الأوروبي وصولاً الى البورصات وأسواق المال العالمية، سيّما وأنّ تصاريح البنك المركزي السويسري حتى ساعات ما قبل القرار كانت تؤكد على التزام المصرف المركزي المضيّ في سياسة تحديد سعر الفرنك وتثبيته عند سقف 1.2 فرنك مقابل اليورو الواحد، وهي خطة اعتمدت منذ العام 2011 لحماية الفرنك من الذبذبات المالية الناتجة عن أزمة 2008 المالية.
سويسرا، البلد المتمايز شكلاً ومضموناً عن دول الإتحاد الأوروبي، انتهج سياسة الشراء بالمفرّق في مقاربته للعلاقة مع الإتحاد، فهو رفض الإنضمام الاقتصادي الكامل للإتحاد ولكنه لم يقع في العزل الكنفدرالي (الوحيد في أوروبا)، مدركاً مكامن قدراته الاقتصادية المتمثلة بعملته "الفرنك" التي ما زالت العملة الثانية في التبادلات التجارية لمنطقة اليورو ولباقي الدول، إضافةً الى تمايزه بنظام مصرفي سري فريد من نوعه قادر على جذب رؤوس الأموال العالمية من خلاله.
تعتبر سويسرا أنّ فاتورة الإنضمام للإتحاد أكبر من المردود العائد اليها، لذلك أخذت من النظم الأوروبية ما يفيدها فوقّعت اتفاقية "شنغن" التي تسهل مرورها وتواصلها مع دول الإتحاد، واتفاقية دبلن الأمنية التي تضعها تحت مظلة الحماية الأمنية للإتحاد الأوروبي وبقيت متحرّرة من القيود الاقتصادية الأوروبية فيما يتعلق باقتصادها وتجارتها التي تعتمد على التصدير بنسبة 50% من دخلها القومي، ولذلك نراها تتبع سياسات متحررة وغير مقيدة فيما يتعلق بسعر الصرف ونسب الفوائد على الاستثمارات الصناعية والتجارية واستثمارات الرهن العقاري، وهذا ما كان يشجع مستثمرين من دول الإتحاد الأوروبي والدول الشرقية الى الاقتراض بالفرنك السويسري وليس باليورو.
في الاقتصاد:
تعتبر هذه الخطوة بمثابة عملية جراحية صعبة على سويسرا ولكن لا بد منها، فالبورصات السويسرية التي خسرت أسهمها في ساعتين 114 مليار دولار نتيجةً لتلك الخطوة، أعادت لعملتها القيمة الحقيقية التي تحمي ضرورات التصدير كي لا تقع في الانكماش كما حصل في أوروبا، ولكن أدى القرار المفاجئ والصادم أمس إلى تزعزع الثقة. إلّا أنّ تصريحات المحللين المتابعين لتلك الخطوة رأت أنه في حال بدأ المستثمرون التشكيك في تصريحات البنوك المركزية بشكلٍ عام، فإنّ ذلك قد يُنتج تداعيات كبرى قد تؤدي في النهاية إلى التذبذب في الأسواق المالية العالمية، وسيكون له تداعيات أخرى ليس فقط على الاقتصاد السويسري فقط بل ربما سيؤدي الى بدء تغيير التوجه المستقبلي للسياسات النقدية من قبل البنوك المركزية الرئيسية حول العالم. وفي ذلك إن حصل انفلات وتفكك للمنظومة المالية العالمية وتضعضع في ضوابطها يعيد الى الذاكرة حالة الفوضى التي رافقت الازمة المالية في الـ2008 وأدت الى انهيار أكبر المصارف وضياع أموال المستثمرين وتأثر اقتصادات دول عديدة.
برأي مصرف "إس إي بي": فإنّ البنك الوطني السويسري قد أدرك أنّ تقارب السياسة النقدية هو أمرٌ مهم لتحديد سعر الصرف، وأنّ السياسة التسهيلية للمركزي الأوروبي قد ساهمت في ضعف اليورو والفرنك مقابل الدولار منذ العام الماضي في ضوء تزايد تدفق الأموال الخارجية إلى سويسرا والتي يتوقع البنك أن تستمر خلال الفترة المقبلة. كان لهذا القرار أثره على الفرنك الذي شهد ارتفاعاً قوياً أمام معظم العملات الرئيسية خلال تداولات اليوم. فقد سجل اليورو - فرنك أدنى مستوياته لكن من الصعب الحديث عن استقرار الزوج. هذا، وقد جذب الفرنك أنظار المستثمرين فى ضوء أزمة منطقة اليورو والتيسير النقدي المتوقع، والذي سوف يدعم هبوط اليورو - فرنك بشكلٍ قوي. بالإضافة إلى أنّ المركزي الأوروبي سوف يضع هذا القرار في الحسبان قبل إتخاذ أية إجراءات أخرى والتي قد تدفع اليورو لمزيد من التراجع. بموجب هذه المقاربة التوضيحية لبنك "إس إي بي"، نجد أنّ المنظومة المالية العالمية بدأت بالتفكك من قيود التكتلات الاقتصادية الكبرى باتجاه التحرر وتعددية الأقطاب المالية.
في السياسة:
تُعتبر الخطوة "المشاكسة" التي قامت بها سويسرا بمثابة خروج عن بيت الطاعة الأوروبي، وفي ذلك رسالتان بالغتا الأهمية، أولهما أنّ القارة العجوز مقبلة على مرحلة "صراع الأسود" من أجل البقاء، سيّما وأنّ أوروبا ترزح تحت ضغط تحديات الانكماش والتباطؤ في النمو الاقتصادي وتبعات التعثر الاقتصادي لبعض دول الاتحاد الضعيفة، بالإضافة الى التذبذب في قوة عملتها وارتفاع الفاتورة الاجتماعية الناجمة عن استيعاب الهجرة التي تعوّض النقص السكاني الحاد مما يضاف الى العوامل التي باتت تهدد الكيان الوحدوي للإتحاد الأوروبي. وثانيهما أنّ الخطوة السويسرية الجريئة قد تفتح الباب على مصراعيه أمام المتردّدين في باقي دول العالم لكي يخطوا خطوات أكثر شجاعةً باتجاه فك الإرتباط بالعملات الأخرى وعلى رأسها الدولار واليورو، مما سيؤسس لبداية نظام مالي عالمي جديد قد بدأت ملامحه مع بداية أزمة المال في عام 2008.
عام 2008، أدى استهتار الولايات المتحدة بالمنظومة المالية العالمية الى الإنهيار، أميركا التي كانت تحيا على طباعة العملة بدون احتياط الذهب مستفيدةً من الطلب الدائم للعملة الخضراء بسبب إلزامية ارتباطها بعقود الطاقة والمواد الأولية، ذهبت بعيداً في عبثيّتها المالية من خلال التضخم الخطير في الرهن العقاري، وقد دفع العالم غالياً من أمواله المودعة في البنوك الأمريكية التي انهارت حينها، أما اليوم فلقد تعلّمت بعض الدول الجريئة الدرس وأخذت العبر، وبدأت باتّخاذ خطوات استقلالية لتحمي نفسها من لعبة انهيار أسعار النفط والعملات كاليورو والروبل. وليس من المستغرب أن تؤدي الخطوة السويسرية الى تفعيل الرغبة لدى دول أخرى كالصين وبعض الدول اللاتينية لفك ارتباطها بالدولار والانعتاق من العبودية المالية للولايات المتحدة وأوروبا كي تنقذ نفسها من السقوط في أتون نار حفلة الجنون واللامنطق، الممثلة بهذه المشهدية الخطيرة للصراع السياسي والمالي في العالم، لتقفز من القارب، قبل الغرق.