لامارتين مع الملائكة في تدمر.. الخلاص الشرقي

لامارتين مع الملائكة في تدمر.. الخلاص الشرقي

ثقافة

الاثنين، ٢٠ يونيو ٢٠١٦

حين وصل لامارتين إلى تدمر صيف 1832 كان قد بلغ من العمر الثانية والأربعين محققاً منجزاً مهماً، فهو شاعر مشهور تردد أوروبا كلها قصائده، ونائب في البرلمان الفرنسي، على أن كل هذا كي يكتمل لا بد له من رحلة إلى أرض المتخيل: الشرق السحري!
كان شاتوبرينان قد سبق لامارتين بحوالي عشرين عاماً في استكناه الجهة الثانية من المتوسط وبناء تلك الصورة السحرية، وحسب تودروف في كتابه (الآخرون) فإن شاتوبرينان قد فتح البوابة لمبادرات بهذا الاتجاه مستفيداً من وجود تراكم تاريخي في العلاقة بين الجهتين، ومؤثراً في صياغة تالي الخطاب الاستشراقي بكامله.
هذا الشرق تكوّن أساسا في ذاك الزمان من رؤى الكتب المقدسة (ومن بعض أشعار هوميروس)، ولم يكن له ليحضر بغير تلك الثيمة التي ميزت حجاج القرنين الثامن والتاسع عشر في معظم القارة الأوروبية: أرض الأجداد، وبالتالي تقديم المنتج الفكري والإبداعي خارجاً من ثنايا صورة الآخر المكتشف بما يتوافق مع الصورة المسبقة ولكن القابلة للإضافة بما يعزز الصورة نفسها، من دون الخروج عن الجوهر المتعالي في معظم الأحيان بحكم العلاقات السياسية والاقتصادية لقارة خارجة من حدودها بعد غفلة قرون.
البراءة المسيحية
كان لامارتين أول من استخدم اللفظة Voyage بصيغة المفرد في الفرنسية فحمل كتابه عنواناً: «ذكريات، انطباعات، أفكار ومناظر من السفر إلى الشرق»، أما في الإنكليزية فحمل عنواناً آخر له طابع ديني: «رحلات في الأراضي المقدسة، زيارة إلى مشاهد مخلص حياتنا»، (طبع 1840)، يساعد العنوان الإنكليزي في فهم الأرضية التي وقفت عليها رحلته إلى الشرق: البحث عن براءة مسيحية مفقودة إلى درجة تبدو معها «الخلاصة السياسية» التي ختم بها كتابه قادمة من عالم واقعي مفارق كليةً لما سرده في رحلته، وهو ما جعله موضع اتهام بالدعوة إلى استعمار الشرق أوروبياً ولو بدون استخدام القوة العسكرية.
في سياق إنتاجه الشعري وحتى في مسارات حياته التي لم تتعاف كلياً من صدمة فقدان الحب الأول المأساوية التي أنتجت لديه أجمل قصائده، بقي الشرق بالنسبة للامارتين أرض الجنة التي هي رمز للتوجه الكامل حيث لا تتهدد فيه احتمالية لقائه بأحبته عناصر الفقد التي خبرها مرتين بقساوة: الأولى في فقده محبوبته (جولي) التي كتب لها (البحيرة)، ثم فقده ابنته التي سماها على اسم محبوبته أيضاً في شتاء بيروت 1833.
لقد كانت مخيلة صاحب (تأملات شعرية) أكثر من عاشقة (للبحر والصحاري والجبال والعادات ولآثار الله المرسومة على المشرق) بتعبيره، هذه الموتيفات الساحرة التي ميزت أدب القرنين الثامن والتاسع عشر بوصفه قرن الرحلات، وبوصف أرض المشرق قبل كل شيء أرض المقدس حيث يمكن فيها لشاعر مثل لامارتين أن (يحلم أحلام يعقوب في ظل ضجة النجوم النابضة العذبة)، وحيث يغمره الحنين المتحقق في طيات سيرة حج تقارن مفرداتها بسيرة المسيح الذي كان، والمسيح المنتظر الذي سيعيد بهاء الزمن الأول وحضور الزمن الأبدي عندما كان لامارتين ملاكاً، وسقط إلى الأرض، لاحقاً بعيد عودته من الشرق طبع كتابه «سقوط ملاك» عام 1838.
يؤكد الرجل أنه قام برحلته بناء على «نوازع هي مثل فعل جليل من أفعال حياتي الداخلية»، ومهما قلنا إن هناك تورية في ـ أو اختباء في ـ قلب الفعل (الاستشراقي) فإن الرجل قد بقي وفياً لفكرة الخلاصية وقد بنى عليها قراءته للمكان المختلف ـ المغاير، نتذكر أن رحلته الخلاصية تلك جاءت في وقت كانت فيه أوروبا تتعافى من قساوة التنوير مفردةً أسئلة جديدة تركز على أهمية الانفعالات تركيزاً مختلفاً عن عاطفة التنوير الجامدة، يعتبر لامارتين نفسه ملاكاً ضائعاً في خضم هذه الأرض الفانية.
تدمر
هذا البحث عن الخلاصية ينتمي إلى منظومة الرومانسية التي تتعالى على الموجودات الفانية من منطلق مفارقة الآني والانمزاج في الأبدي، يقف الشاعر أمام آثار تدمر وقد مضى على اكتشافها زهاء مئة عام صارت فيها قبلة الرحالة، ولكنه يستنطق تفاصيل المكان ويتأمله مستنطقاً الحياة ككل، كقيمة صافية متحررة من الإثم ومن قدرة الإرادة البشرية، يتأملها كمعنى صاف ببراءة تفجر ينابيع القيم العابرة للأزمنة وللأمكنة نفسها: هل كنت ملاكاً في حيواتي السابقات؟
يدخل هذا السؤال في لب الرحلة ذاتها التي استمرت بين تموز 1832 وأيلول 1833، يدخل لامارتين تدمر عشية يوم صيفي حار وقائظ فعلاً، مرتدياً ملابس الرجل الأوروبي الأرستقراطي: المعطف الأحمر الثقيل والقبعة المزركشة والبنطال الخيش الأبيض يرافقه طبيبه وزوجته «ماريان»، ليقضي هناك بضيافة أحد رؤساء القبائل.
يذكر الشاعر اسم تدمر بصيغته (بالميرا) للمرة الأولى في كتابه وقت لقائه بالليدي «استر ستانهوب»، فيصفها بملكة الصحراء السورية، هذه المرأة الإنكليزية التي توّجها بعض البدو ملكة على الصحراء، استقبلته في منزلها في بلدة «جون» جنوب لبنان محدثة إياه عن السحر وعن الحيوات السابقات والتقمص الذي نقلت فكرته من جيرتها للدروز، لا يذكر الشاعر اسم زنوبيا في أي من فقرات كتابه، ولا في أي مقطع من مقاطع قصيدته القليلة الانتشار هذه.
في قصيدته التي كتبها عن تلك الليلة التي قضاها في تدمر، يستمر بالتأكيد على نزعته الخلاصية التي ترافقه في رحلته تلك من «حدائق حلب» إلى «أعمدة تدمر»، حيث: «عيناي تبحثان عبثاً في تفاصيل أعمدة، تبحثان في عمق ركائز أقواس تدلك إلى سبيل، حيث القمر شارد في السحب، تتوه عند السرادق وهي تمعن النظر، يلمسها بأصابعه ليسبر الغموض، رجل أتى من الغرب» (الترجمة عن الفرنسية بتصرف: د. سمير نصير).
الرجل القادم من الغرب يطرح تساؤلاته في كل القصيدة مشبعاً إياها بتلك الروح الباحثة عن يقين، الملاك الذي يتابع فناء التجربة الأرضية حيث «تلاشت الأسماء» وحيث «عظام المدن التي تلاشت أسماؤها، وكتل ضخمة تدحرجت مشكلة سيلاً من الأنقاض، وبحر هائل من البشر جفت موجته»، إنه الملاك الذي يراقب تلك الصور محاولاً سبر الغموض لعله يحظى بيقينه الغائب.
الصورة المترمدة في سياق التأمل الجمالي، تلك هي الصورة الإجمالية للمشهد البصري الذي يقدمه، إنه يستشرق هنا جمالياً بلامبالاة خادعة، هنا ذاتٌ تستعيد لايقين المصير مؤكدة المسألة الأساس وراء ركام المكان والأسئلة: لقد كان ملاكاً ولكنه سقط من الجنة إلى أرض فانية، يختم قصيدته.