الشيخ بهجت غيث: تمرد العقل

الشيخ بهجت غيث: تمرد العقل

نجم الأسبوع

الثلاثاء، ٢٤ مايو ٢٠١٦

بقي الشيخ بهجت غيث حتى وفاته أمس إبن الأرض. قامته كسنديانة مجاورة لضريح النبي أيوب في قريته نيحا الشوف. لم يقهرها العمل المضني بحثا عن لقمة عيش شريفة في لبنان وأبو ظبي، ولا قهرتها لاحقا مسؤولية مشيخة العقل التي اعتقد أنها تحميه لو حماها، وما أضناها التنافر السياسي مع زعيم الجبل وليد جنبلاط. صوته بقي هادرا كأصوات أبناء القرى العالية والنائية المحصنة بالجبال والملتحفة السماء والنجوم وضوء القمر. صراحته قاربت حدود الصراع غير المتكافئ.
ترعرع بهجت غيث في عائلة متواضعةٍ، وَرِعَةٍ، كريمة وطيبة. ذهب مع بعض إخوته إلى الخليج. كافحوا وتعبوا حتى شربت أرض الإمارات من عرقهم. ثم أسسوا شركة «الجابر» مع رجل طيب مثلهم ومتواضع النشأة مثلهم هو عبيد الجابر... نجحوا في جعل اسم «شركة الجابر» بين كبريات الشركات. ساهموا في إعمار أبو ظبي ودبي وإمارات أخرى. أنعم الله عليهم، فتحوا أبواب شركتهم للبنانيين من قريتهم ومناطق أخرى بينها جزين المجاورة. ساهموا في إنقاذ آلاف الشبان من أتون الحرب. لم يميزوا بين مسلم ومسيحي.
كانت الميول الإيمانية قد بدأت تظهر عند رجل الأعمال الناجح بهجت غيث في الخليج. راح يجمع الشبان ويحدثهم عن الدين والدنيا. تعلم على ذاته. بحث في كتب «الحكمة» التوحيدية. حاول بثقافته التي بدأت بسيطة وتوسعت أن يتعمق في قراءة القرآن الكريم. انفتح على الأديان الأخرى. وضع مجموعة من الكتب لشرح ما يستطيع وما يجوز شرحه عند الموحدين: مجموعة معارج الروح. جوهر التوحيد. مجلد التوحيد عمق وتبصر. قصائد حكمة الأديان. أعاد طباعة كتب الحكمة الاغريقية لارتباطها العضوي بمذهبه التوحيدي الدرزي. شغلته فكرة إبعاد الدين عن سلطة السياسة، لكن كثيرين خذلوه، أو ربما لم يقتنعوا بحسن خياراته الصدامية.
اختار الصمت في أواخر حياته. استمر في تمويل معهد تربوي في الجبل لرعاية وتعليم الأيتام والمحتاجين، وأشرف على مجلة الضحى التي مرر فيها بعض أفكاره الجدلية الجريئة.
سعى إبن الأرض إلى تقديم نموذج لرجل أخذه حلمُهُ إلى تحدي الزعامات والسياسات التقليدية. تمرد أكثر مما يحتمل الجبل والتنافس. طمح أكثر مما يحتمل الركود السياسي في الجبل طموحا. كان المرض أسرع من طموحاته. هو الوحيد الذي قهر تلك القامة الشامخة وأسكت الصوت. رحمة الله عليه.