العنف في الفنّ التشكيلي

العنف في الفنّ التشكيلي

ثقافة

الاثنين، ٢ مايو ٢٠١٦

 نجاح إبراهيم

لم تعد ظاهرة العنف غريبة عنا، فنرفع حواجبنا عند سماعنا قصة ما، أو نرى مشهداً مخرّشاً لبصرنا يملؤنا حزناً، فلا يُقتلع من ذاكرتنا بسهولة!
لأن العنف اليوم بات لصيقاً بنا، مرادفاً لكلّ لحظاتنا، نسير معه، يسير معنا لحظة بلحظة، ينام حتى في فراشنا، بل تحت جلدنا.
حضوره صار مستساغاً في مجتمعنا السوري، بل في المجتمعات العربية كافة، ولاسيما أن هذه الظاهرة أخذت تتنامى بشكلٍ مخيفٍ يثير الهلع في نفوسنا لما تهدده من قيم ومعتقدات، وتقتنص الحريات والمستقبل.

ترى ما العنف؟
قال ابن منظور: إنه الخرق والتعدي، فنقول عنف، أي خرق، ولم يرفق.
وعنفَ به وعليه، يعنفُ عنفاً وعنافة، أي قسا عليه. وهو عنيف إن لم يكن رفيقاً في أمره. والعنيف هو المتصف بالعنف، كما هو القوي الذي تشتد صولته بزيادة الموانع التي تعترض سبله.
ويعرفه الدكتور خليل أحمد خليل في كتابه « المفاهيم الأساسية في علم الاجتماع:
«الإيذاء باليد أو اللسان، أو بالفعل، أو بالكلمة في الحقل التصادمي مع الآخر».
بينما نقرأ دلالته في الفكر الغربي، فتكون مقابلا للفظة violence وتعني القوة الفيزيائية، هذه الدلالة تشبه الدلالة العربية التي تعني الإكراه والتفوق العضلي على الآخر.
ثمّة ارتباط وثيق بين العنف وبين الإيديولوجيا يظهر اليوم، حيث تعني هذه الأخيرة منظومة الأفكار والقيم، وتكون غايتها الحفاظ على الوضع الاجتماعي القائم.
ما يهمنا العنف في أباديع النص.
سواء كان نصاً سردياً أم نصاً تشكيلياً، فإن المكنة التي تنتجه واحدة وإن تعددت الأشكال، فثمة عنف سياسي حيث يحظى بأهمية كبرى داخل المسرود، أو اللوحة.
فكثيراً ما قرأنا في نتاجات أدبائنا في الوطن العربي بشكل عام، عن السجن والتعذيب، أو عما طرحته الحروب الداخلية والخارجية.
بينما العنف الاجتماعي الذي جسّدته الأعمال، وإن كان من الدرجة الثانية إلا أنه يتضح جلياً في الأعمال الإبداعية كالخيانة، والفقر، والنفاق، و…
ومن ضمن ذلك، العنف الأسروي، والعنف النفسي الذي نلمح حضوراً قوياً له، حيث يتشكل من خلال عنف الحب، وعنف الذاكرة، وعنف العزلة.
بينما العنف الثقافي والرّمزي يحضران وبقوّة في أشكال السّرد، فكثيراً ما تردّد في أسماعنا أن المبدع حين يبتغي أن يخلق نصّه الإبداعي، أو ينتج إبداعاً، فإنما يعوّل بذلك على الهدأة النفسية والحياتية، والعيش بسلام، انطلاقاً من مقولة مفادها:أن الإنسان ينشد السلام والسعادة، بيد أن هذه المقولة ناقصة، وخاصة عند مبدعنا العربي، ناقصة إلى حدّ ما، لأن القلق الاجتماعي والسياسي، والخوف على المصير، وعلى إمكانيات الاستمرار، كلّ هذا يقضّ مضجع الفنان، ويجعل أفكاره ورؤاه تضطرب، فيجبر على البحث عن مكان وزمان يجعلانه قادراً على الخروج من هذا الوضع المأزوم فـ: «المبدع ما إن يشعر وضعاً عنيفاً، أو يمارس عليه العنف حتى تشتدّ به الرّغبة في التعبير عن قبوله هذا الوضع أو رفضه، فإما دفاع أو مقاومة عنيفة تنشأ عن رغبة في الدفاع عن نفسه وأرضه وهويته، وأفكاره ومعتقداته، إذ تلحّ عليه دوافعه الإبداعية للتعبير عن الحالة، وكثير من الآراء تؤكد أن الحرب تشكل محفزاً للنشاطات الفنية».
فالعنف بأشكاله المتعددة قد يكون وجهة نظر بالنسبة للفنان.
– 2-
ذات كراس أهدي إليّ منذ زمن بعيد، يحتوي عدداً من اللوحات التشكيلية، التي تزخر فيها مشاهد العنف الناتجة عن الحروب، فتبرز المذابح وطرق التعذيب، والتنكيل بالمعتقلين، ولعل أفظعها ما قام به الرّومان وهم يدفعون بالأبطال السّجناء إلى مواجهة ومهاجمة الأسود في السّاحات، إذ يبذلون قصارى جهدهم لنيل الحرية، على حين الجماهير الملتهبة حماسة وفرحاً تملأ المكان ضجيجاً وحماسة.
كما زخرت اللوحات بمشاهد تعذيب شهداء المسيحية في المراحل الأولى لشيوع هذا الدين.
لم تكن في اللوحات المادة الفنية المستوحاة من الحروب فقط، وإنما ما تركته من آثارها على المجتمع، وذلك مما نراه واضحاً على وجوه الناس، كالبؤس الذي ينبع من العيون، والتشرد والجوع والبثور.
وقد جسّد هذا كلّ من الفنانين «بروغل، وجيروم بوش» في لوحاتهما.
ولعلّ لوحة «الغورنيكا» العالمية، والتي رسمها «بيكاسو» هي التي شدّت انتباهي إليها، وإلى العنف المرعب الذي فيها، ربّما يعود السبب إلى وصول شهرتها إليّ قبل أن أراها بأم عيني، سأتذكر اللوحة التي أخافتني:
«ثمّة فرس مجروحة في منتصف اللوحة، تبدو رقبتها مكسورة ومائلة باتجاه الشمال، الفم مفتوح من شدّة الألم، أيضاً نلمح إنساناً في الجهة اليمنى من اللوحة، رُسم بطريقة عادية، حاملاً بيده مصباحاً من الزيت».
فوق رأس الفرس رُسمت عينٌ كبيرة محاطة بالخربشات، حادة تشبه الأهداب، من منتصف العين برز مصباحٌ كهربائي، هو بمنزلة بؤبؤ العين، وإلى يمين الفرس ثمّة امرأة تركض ملتاعة، يشعر المتلقي أن ركضها يطوي رعباً لا مثيل له.
بين قدميّ الفرس نجد تمثال جنديّ مستلق على الأرض، يداه ممدودتان، وسيفه محطم ومجزأ إلى قطع عديدة.
بينما امرأة راكعة أمام ثور تصرخ حاملة طفلها، وإلى اليمين منها شخص يمدّ رأسه إلى الوراء مطلقاً صرخة، رافعاً يديه إلى السماء، ربّما كان يستجديها!.
الألوان المستخدمة في اللوحة هي اللون الأسود، والرمادي والأبيض، تقصّدها «بيكاسو» ليبرز الفجيعة والحزن والضبابية على العمل، في حين ترك اللون الأحمر ليعبر عن العنف، كما اعتمد على إبراز الحزن والألم أكثر من إبراز مشهد الدم والقتل.

ولكن ما قصة الغورنيكا؟
في عام 1937، وفي شهر نيسان منه، توجّهت قنابل النازية إلى إحراق بلدة «باسك غورنيكا» وإبادة كلّ مَن في البلدة، وحرقها عن بكرة أبيها، حيث مات أكثر من ألف وستمئة شخص، لهذا كانت مشهداً للعنف في القرن العشرين، خلد من خلال لوحة جسّدت جريمة نكراء لا تغتفر ولا تنسى.
لهذا عبّر بيكاسو، هذا الفنان الذي آمن أن الفنّ وليد الحزن والألم، ولعلّ رفضه للعنف الجماعي، وخاصة الناتج عن الحروب، دفعه لأن يُخلد حرباً أقيمت على بلدة «الغورنيكا» على الرّغم مما عرف به من سادية، وخاصة على النساء، اللواتي رسمهن عاريات، ومع ذلك ففي العديد من لوحاته نراه قد تضامن مع بعضهن، اللواتي عملن بالدعارة، فبرأيه أن العنف الاجتماعي كالقهر والتشرد جعلهن يمارسن هذه الحرفة القديمة.
كما أنه رسم مذبحة جرت في كوريا، ورسم لوحة أسماها (الحرب) راغباً بالقضاء عليها مركزاً على السلام.
أما بالنسبة للفنان «إيوجين دولاكروا» فقد عبّر عن العنف الحربي، بطريقة متميزة، فصوّر «مذبحة السّو» التي قام بها الأتراك ضد اليونانيين.
أما عن تصويره لبعض العنف في بقاعنا العربية، فقد صوّر الحروب بين القبائل المغربية، بقيادة أمرائها، فرسم الحصان العربي الأصيل، وخاصة حركته بطريقة مبالغة، عجيبة، قيل إن الحصان يعجز عن فعلها، وذلك لإبراز العنف والتباهي بالشموخ، فيخيل للمتلقي أن الفنان يمجد القوة، أو الحرية.
كما رسم لوحة بعنوان ( الحرية تقود الشعب) يجسد من خلالها، انتفاضة الشعب الفرنسي، بقيادة البورجوازية كناشط آنذاك ضد النظام السياسي الملكي والاقطاعي، إذ تمخضت عن معركة رهيبة سقط فيها عدد كبير من جانبي الصراع، في حين نلمح فتاة منتفضة تحمل العلم الفرنسي وخلفها الجماهير الملتهبة.
أما الفنان الإسباني «فرانشسكو غويا» فقد صور العنف بنظرة نقدية، إذ راح ينتقد ويستهزئ من عنف الطبقة الحاكمة ورجال الدين.
في لوحاته، عبّر «غويا» عن رفضه لحروب نابليون ضد إسبانيا، فرسم لوحتين «3 أيار» و«5 أيار» اللتين صوّر فيهما المعارك البطولية، التي خاضها المقاومون ضد الفرنسيين.
أما لوحته الشهيرة «زحل يلتهم أبناءه» فقد استوحاها من أسطورة زحل الذي التهم أولاده واحداً تلو الآخر، حتى أتى عليهم، في حين بقي « جوبتير» حيث استطاعت أمه إخفاءه، والسبب أنه رأى في المنام أن أحد أولاده سيكون له شأن أعظم منه. لهذا استخدم العنف ضدهم.
لقد رفض «غويا» العنف إذ يؤكد تصويره له من خلال الحروب، وما تتركه من أثر في الروح والجسد، كما صور عنف الدين وعنف الجوع والمرض والذي شهر بالكوابيس التي تنتج عنه – رفض عنف المرض على الذات، أي بمعنى عنف الذات، وذلك عندما امتلأت جدران منزله بجداريات تصور أحاسيسه الضاجة بالرعب والهلع كما في لوحته « استراحة الساحرات» إذ رسم تيس الماعز الضخم، يتوسط بؤرة الساحرات اللواتي يقدمن له فروض الطاعة.
ثمة فنان ألماني يدعى «ماكس بكمان» عايش الحرب العالمية الأولى، فصور هذا العالم العنيف، رافضاً الحرب من أهم لوحاته: «ثلاثية الرحيل» حيث أبرز فيها عنفاً طاغياً بالألم، مناظر تعذيب ومشاهد تعبر عن التحرر الروحي، صور طرق التعذيب الجسدي، والعقلي الذي فرضته ألمانيا الهتلرية.
بينما في وسط لوحته نلمح اللون الأزرق، فثمة رغبة الأشخاص بالرحيل والخلاص، وثمة امرأة تحمل الطفل الأمل والحياة الآتية المشرقة، التي يطمح فيها الفنان.
على أي حال..
ثمّة لوحة في الكراس رسمها «فيرناندو بوتيرو»
قيل إنها كانت عن التعذيب في سجن «أبو غريب» السّجن، الذي أقامه الأميركيون في العراق.
ترى ماذا رسم بوتيرو؟
لقد صوّر الواقع الأليم، الذي شهده السجن من تعذيب وتنكيل للعراقيين المسجونين فيه، فخلد عذاباً مورس بحقّ العرب، من أشهر اللوحات: «العربي أهرامات اللحوم» حيث صوّر التعذيب والاعتداء الجنسي، وإجبار المسجونين على ارتداء ملابس داخلية نسائية، كما لا يغيب مشهد الكلاب العسكرية، التي كانت تروّع المعتقلين، وتعذيب النساء المعتقلات.
لقد أشار «بوتيرو» إلى العنف وموقفه منه، من خلال ألوانه الداكنة، إضافة إلى اللون الأحمر.