نظرة في مسار معرفي (4 من 4) ..من التحقيق إلى التأليف .. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

نظرة في مسار معرفي (4 من 4) ..من التحقيق إلى التأليف .. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

تحليل وآراء

الثلاثاء، ١٢ مايو ٢٠١٥

 للمرحوم د. ابراهيم الكيلاني _ عدا التحقيق _ مؤلفات وقفها على الدراسة الأدبية والنفسية والاجتماعية والسيرة الذاتية لعدد من الأعلام، منهم : معروف الرصافي وطه حسين وزكي مبارك.. وقد بدا فيها جميعاً ناقداً ومؤرخاً أدبياً ومحللاً نفسياً وباحثاً اجتماعياً. هذه الصفات ليست بالغريبة على شخصية استحوذت موسوعية الثقافة وتعدد سبل المعرفة كشخصية المرحوم الكيلاني.
 في كتابه الموسوم بـ " معروف الرصافي " الصادر عن اتحاد الكتاب العرب دمشق/1978/ وصف صريح لطبيعة هذا الكتاب، مفاده أنه : " دراسة أدبية نفسية واجتماعية ". وأنه لكذلك حقاً، حسب رأينا المتواضع.
 استهل أولى صفحات كتابه هذا ببيت للرصافي  يقول:
" عاهدت نفسي والأيام شاهدةٌ ألا أقرَّ على جور السلاطين".
 ثم توجه الكيلاني إلى قارئه بكلمة قال فيها:
"هذه دراسة تحليليّة عن شاعر العراق معروف الرصافي، وهي ثمرة قراءتي ديوانه واطّلاعي على سيرته، ولعلّها تسهم إسهاماً متواضعاً في عرض بعض جوانب شخصيّة هذا الشاعر الفذّ وأفكاره ومذهبه في الحياة والاجتماع ". ثم مضى بالقارئ ليدخله في صورة المناخ العام للعراق زمن الرصافي، تمهيداً للدخول في الدراسة؛ فقد كان العراق في القرن التاسع عشر ولاية عثمانية تماثل غيرها من الولايات من حيث الركود الاجتماعي والتّخلف الحضاري، بل كانت مظاهر التأخر في العراق أشد بروزاً نظراً لانعزال هذه الولاية طويلاً وبعدها عن التيارات التي أخذت تتسرّب عهدئذ إلى العالم العربي، واتّساع المسافة التي تفصلها عن بقية أجزاء الإمبراطورية العثمانية المترامية الأطراف، ومعاناتها معضلات اجتماعية متوارثة كادت تجعلها نسيج وحدها بين البلدان.
 شهد الرصافي القرن التاسع عشر والقرن العشرين؛ أي إنه شهد عصرأ حافلاً بالأحداث.. عاش في عصر القوميات وعايش إعلان الدستور العثماني في العام 1908 والارتكاسات في النفوس والأفكار التي أعقبت ذلك الإعلان؛ كما شهد الرصافي انهيار تلك الامبراطورية وتقسيمها بعد الحرب العالمية الأولى، وعاصر دخول الحلفاء البلاد العربية ومنها العراق سنة 1920 وما تبع ذلك من ويلات وكوارث.
 يخبرنا الدكتور الكيلاني بميلاد الرصافي في بغداد سنة 1875 من أصل بدويّ، في أسرة فقيرة. كان أبوه عبد الغني محمود عريفاً في الدرك ينتسب إلى عشيرة الجبارة الكردية، وكان متديناً، كثير الصلاة، وكثير قراءة القرآن، وكان "إذا غضب أخاف وإذا ضرب أوجع".
 كانت صلة الابن بأبيه قليلة بسبب غياب الأب عن الأسرة امتثالاً لمتطلبات وظيفته. لهذا لم تتشكل للأب لدى الابن أي صورة ذات أثر أو تأثير واضحة المعالم؛ فحلت صورة الأم بحكم الضرورة محل صورة الأب فتولت تربية الابن، كان تأثير الأم (فاطمة بنت جاسم) بعيد المدى على ابنها (معروف) وذا أهمية في تكوينه جسماً وروحاً حسب تعبير الكيلاني. ثم إن هذه الأم كانت على فقرها وتواضع محتدها، حريصةً على الارتفاع بابنها فوق العقبات جميعاً؛ فغرست فيه حب العلم وتحصيله حتى غدا اسماً وعلماً يشار إليه بالبنان أما هو فلم يقدم لهذه الأم أيّما التفاتة ذات شأن، فماتت وهو بعيد عنها في استنبول أثناء الحرب الكونية الأولى، مخلّفا موتها في نفسه شعوراً بالذنب وندامةً مريرة، وبتأثيرهما انحاز الرصافي انحيازاً لافتاً للوقوف إلى جانب المرأة.