نظرة في مسار معرفي (2)..الكيلاني والتوحيدي.. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

نظرة في مسار معرفي (2)..الكيلاني والتوحيدي.. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٢٨ أبريل ٢٠١٥

 ينطلق د. ابراهيم الكيلاني في معظم عطائه الفكري من البحث والاستقصاء فالتحليل؛ غير أن متابعته المتأنية لمؤلفات أبي حيان التوحيدي جعلته يقرُّ بالتعذّر على المؤرخ إيجاد سيرة متسلسلة الحلقات للتوحيدي، ولاسيما أن النُتف المتعثرة هنا وهناك لم تفد شيئاً عن أصله ونشأته ومكان ولادته... وهذا ما جعل الأخبار عنه قليلة، وما عرف منها لم يسلم من التحريف والوضع، خاصة أن التوحيدي لم يكن على وفاق مع أهل عصره، وهذا ما جعله يقضي شطراً من حياته مستتراً، خشية الأذى وبطش السلطان.
 على أن ما تجمّع لدى الكيلاني من معلومات جعله يؤكد اعتقاده في أن أبا حيان هذا ولد سنة (310) للهجرة من أبوين فقيرين، وأنه قضى قسماً من حياته في بغداد حيث أتيح له أن يتلقى العلم على أعاظم علماء عصره، فكان لهم أثر في توجيهه وتكوينه أدبياً وعقلياً وروحياً، وكان أبرز هؤلاء الأساتيذ: أبو سعيد السيرافي (248-367 هجري) وهو عالم فذّ شارك في علوم عصره وأنواع المعرفة الشائعة فيه مشاركة واسعة، فدرس عليه التوحيدي الفقه والفرائض والحساب والكلام والبلاغة والشعر والعروض والقوافي. كما درس على علي بن عيسى الرّمانيّ(296- 384 هجري) علم الكلام والمنطق والعربية. ودرس الفقه الشافعي على كل من القاضي أبي حامد المرورّوذي (المتوفى سنة 362 هجري)، وأبي بكر محمد بن علي القفّال الشاشي (المتوفي سنة 365 هجري)، والقاضي أبي الفرج المعافى بن زكريا النهرواني (305 -390 هجري). أما الفلسفة فدرسها على أبي زكريا يحيى بن عديّ النصراني، كما درس الحكمة والمنطق على أبي سليمان السجستاني الذي كان منزله مقيلاً لأهل العلم يجتمعون عنده للدرس والمناقشة. وثمة أساتيذ آخرون كان أثرهم في التوحيدي أقل من سابقيهم.
 في متابعته المتأنية والشاقة معاً لمسار التوحيدي استطاع الدكتور الكيلاني أن يستخلص الصورة التي كان عليها التلميذ وأساتيذه من المفكرين والأدباء، ويبين لنا مقدار الهوة التي انحدروا إليها في ذلك العصر، معتمداً في رسم تلك الصورة على ما قاله التوحيدي ذاته الذي بدأ ملامح الصورة بقوله، شاكياً مرارة العوز على هذا النحو:
" غدا شبابي هرماً من الفقر، والقبر عندي خير من الفقر... خلّصني أيها الرجل من التكفف       [الخطاب موجه لأبي الوفاء المهندس] أنقذني من لبس الفقر، أطلقني من قيد الضرّ، اشترني بالإحسان، اعتبدني بالشكر، استعمل لساني بفنون المدح، اكفني مؤونة الغداء والعشاء، إلى متى الكسيرة اليابسة، والبُقيلة الذاوية، والقميص المرقّع.. قد أذلني السفر من بلدٍ إلى بلد، أخذلني الوقوف على بابٍ وباب ".
 ثم تابع الكيلاني رسم الصورة باستقصائه أحوال طبقة الأدباء والمفكرين فوجد أنها لا تخرج عمّا وصف به التوحيدي حاله، فهذا أبو سليمان السجستاني زعيم المناطقة في عصره كان " بحاجة ماسة إلى رغيف، وحوله وقوّته قد عجزا عن أجرة مسكنه ووجبة غدائه وعشائه "، وهذا أبو سعيد السيرافي يعمل في الوراقة فينسخ في اليوم عشر ورقات بعشرة دراهم ليعيش "، وهذا أبو بكر القومسي الفيلسوف بلغت به الفاقة حداً جعلته يقول:" ما ظننت أن الدنيا ونكدها تبلغ من إنسان ما بلغ مني، إن قصدت دجلة لأغتسل منها نضب ماؤها، وإن خرجت إلى القفار لأتيمّم بالصعيد عاد صلداً أملس". وقد رأى الكيلاني أن هذه الصورة كانت من انعكاس الحياة العامة في ذلك العصر على أصحاب الأدب والفكر.

    (يتبع...)