رسالة عاشق لأشجار الغَربْ.. بقلم: عبد السلام حجاب

رسالة عاشق لأشجار الغَربْ.. بقلم: عبد السلام حجاب

تحليل وآراء

الخميس، ١٦ أبريل ٢٠١٥

قلت ذات يوم: "إن العشق أوله احتلال، وإن الحبّ آخره احتلال". ولم أعلم أن البلد أجمل من كل نساء الأرض، وأن الذكرى تبني عميقاً في الروح والوجدان. وفي لحظة، من الزمن الممتد بين الولادة والموت، تزهر عشقاً وحباً وإرادة، وإن تجرأت الأحداث تحت ظلام ليلة طارئة.
ليس من قبيل الشعر أو الخيال، أثق بأن ليس هنالك مثل أشجار الغربْ، رفيقة نهر الفرات الأبدية، يتقن فن الإصغاء لإيقاع هذا النهر الساحر. وقد جعلته النعمة الإلهية منذ لحظة عناقه الأولي لمدينة دير الزور، يوزع بحكمة خيره وجماله في فرعين يتمايل فيهما بغنج ودلال على نغمتي "بيات وصبا" محتضناً "الحويقة" حتى لحظة عودة لقائهما الأسطوري من جديد.
وأثق أيضاً، بأن لا أحد مثل ابن الفرات وأهل مدينته الصابرة والصامدة. فقدر له أن يعشق أشجار الغربْ. ويدرك طيب رائحة زهره المتطاير بين الناس، فيضيف جمالية لا تنسى إلى أيام السباحة والتنزه في "الشرداق" على ضفافه، أو في صيد سمك "الشبوط" بطرق بدائية متنوعة، أوفي موعد "تطويف" "صواني من خشب". عليها شموع تضيء عتمة الليل من حولها، قبل دفعها مع جريان النهر محملة بآمال تحقق مراد مقصود أو درء شر ضرر محتمل. بل إنه ليس إلا فيضاً من عشق وحب يردده أهل الدير موالاً "كل شيء عندنا حلو حتى عجاج الدير".
هي صور، كأنها فيلم سينمائي بالأبيض والأسود باقية "بحلوها ومرها" رفيقة ذكريات تنعش الوجدان وتغني الذاكرة الفردية والجمعية، ولا تفارق، حتى وإن جاوزت سن السبعين، أو أنني بعيد في المكان، فهي تستيقظ دائما ًمن دون استئذان لترسم في حاضر الأيام ومستقبلها صورة واقع لحياة متجددة يتلاحم الخيال فيها مع الإرادة المعمدة بالشجاعة والثقة بيوم غد قادم. يتحول المستحيل فيه إلى مفردة قديمة في قاموس جديد، يكتبه بحبر الدماء وتفاصيل الصمود أهل الدير ومقاومتهم الشعبية إلى جانب بواسل الجيش العربي السوري، رجال الحق في الميدان، وهم يطاردون فلول الإرهابيين ودحرهم عن أرض الفرات. لاستعادة الألق إلى مساءات دير الزور العامرة بالخير والكرامة وحب الوطن. وليصبح المجد لأشجار الغرب والجسر المعلق والنهر الساحر ولكل شارع وبيت وملعب ومقهى، أناشيد نصر على الظلاميين والحاقدين والطامعين والمراهنين على الانتظار.
أعرف أن أهلاً وأحباء وأصدقاء، لم يطيقوا الغربة عن دير الزور الحبيبة.
فعادوا إليها "مطلّقين بالثلاث" إغراءات الغربة وتنوع أشكال تبريراتها التي ربما تبدأ بالخوف، ولا تنتهي بالرقص على حبال الأزمة حتى السقوط في مستنقع الخيانة للفرات وأشجار الغرب، وللأهل والوطن.
لكنني أعرف أيضاً، كم هم سعداء، هؤلاء الذين عادوا إلى مدينتهم بعد فراق، لأشجار الغربْ. رغم مصاعب الطعام والكهرباء وتحديات الأمن والأمان. فأصبحوا مع أهلهم وجيرانهم جزءاً من نسيج الصمود الاجتماعي والميداني الوطني، الذي لا يقبل أن يبيع أرضاً أو كرامة أو ذكريات أو وطناً، مقابل نظرة أو جلسة إلى نهر الفرات الجميل وأشجار الغرب على ضفافه، قانعين بكفاف القوت، مطمئنين إلى تدفق النخوة والكرامة والعزيمة، واثقين من غدهم القادم، وهو وعد الرجال في الميدان، ووعد النساء الديريات أخوات الرجال، وقد أقام على الوعد الجميع وما بدلوا تبديلاً، فبات النصر أقرب من حبل الوريد.