الغالية.. بقلم: آمال الشماع

الغالية.. بقلم: آمال الشماع

تحليل وآراء

الاثنين، ٢٣ مارس ٢٠١٥

نشأت في أسرة فقيرة، وعرف الشقاء طريقه إليَّ في وقت مبكر.. إذ توفي والدي وأنا في الثانية عشرة من عمري، تاركاً السمعة الحسنة، والفقر والعوز والديون، وأسرة مؤلفة من أمي وإخوتي الأربعة. ولما كنا نسكن في حي فقير ما زالت علاقاته الاجتماعية والإنسانية حاضرة، فقد توسط لي أهل الخير ووجدوا لي عملاً في أحد المعامل، وكذلك لأمي.. ونظراً لظروفها القاسية، ولرعاية إخوتي الصغار ولرأفة رب العمل معها.. فقد كانت تعمل في البيت، وتحاسب على كمية القطع المنتجة وكان ذلك عن طريقي، إذ أجلب لها المواد الأولية وأعيدها مصنعة، وبقدر ما كان الحمل ثقيلاً عليها، بقدر ما كان ظهرها قوياً، فقد كانت امرأة صلبة المراس.. قوية الشكيمة، تعمل بشجاعة وصمت، حتى يكون يومها أحسن من أمسها، وعندها أفضل من يومها، فلم تكن تتبرم من قسوة الأيام وسهر الليالي، ولم يعرف اليأس طريقه إليها، فقد صممت أن تتحمل العبء الكبير في إعالة هذه الأسرة والسير بها في الطريق الصحيح، فأخذت تواصل ليلها بنهارها وهي تكد وتشتغل، ولم تنسَ في غمرة عملها ومتاعبها رعاية إخوتي وتنشئتهم النشأة المثالية، بالإضافة إلى الإشراف على دروسهم، وأكثر ما كان يحزّ في نفسها خروجي من المدرسة، والتحاقي بالعمل في سنٍّ مبكرة، وحرماني من نعمة العلم من أجل لقمة العيش، ومساعدتها في إعالة هذه الأسرة الكبيرة، التي لم يكن لها معيل سوى عملنا، فلم يكن أهل أبي أحسن حالاً منا وكذلك أهلها، ومرت الأيام ومرت فكرة الحداد، وبدأ توافد الخطاب على أمي نظراً لصغر سنها، وجمالها الآسر، وسمعتها الطيبة، إلا أنها رفضت أن تتمزق بين واجباتها نحو الزوج الجديد وبين أمومتها وواجبها نحونا، وبالتالي ضمنت لنا حياة هادئة، كريمة، كما ضمنت  ألا تتحمل عبء اليتم والظلم معاً مع الزوج الجديد، فإذا لم يكن لها يدٌ في يتمنا كان لها اليد البيضاء في رفع الذل عنا في العيش في كنف رجل آخر، قد لا يكون حنوناً أو كريماً، وفي أحسن الحالات سوف يشعرنا ويشعر أمي أننا عبء عليه وبالتالي يجب أن يكون الشخص المميز لدينا كما يجب أن تكرس له أمي كل وقتها، وعواطفها، ومشاعرها أثناء وجوده على الأقل، وفي أحد الأيام وبينما كنت عائداً من عملي رأيت بائع جوز الهند، وقد أخذ يرتب الجوزات على عربته، وتذكرت أمي وكم تحب هذه الثمرة، كما تذكرت أبي حين كان يفاجئها بها، وهي في أول الموسم رغم فقره، وكانت تقول له بدلال: الله يسلم يديك، ويعوض عليك، كل قرش بعشرة، ولكن لو انتظرت فترة، إذ إننا في أول الموسم وما زالت هذه الغالية غالية.. وتضحك، ويجيبها بنفس الذكاء والفطنة وهو يحتويها بكل حبه وحنانه: الغالية للغالية يا حبيبتي.. ويجتمع شمل العائلة كلها حول الجوزة الميمونة وتقسمها أمي إلى أقمار هلالية بعد أن تصب ماءها الشهي في فناجين القهوة الصغيرة حتى يتذوقها الجميع، وتوزعها علينا بالتساوي، إلا أن أبي يضيف إلى القسمة حصة إضافية ويعطيها لأمي وهو يضحك ويقول: هذه لك أيضاً، نظراً لمكانتها عندك ومكانتك عندها. وتضحك أمي وتأخذ الحصة الإضافية وتعيد توزيعها على الجميع بين فرح وسرور العائلة كلها، ودمعت عيناي، من سيجلب لأمي جوزة الهند بعد أبي، وحتى ولو استطعت شراءها أنا أو غيري، فمن سيعيد مع هذه الجوزة الذكريات الحلوة لأيام مضت ولن تعود وينكأ جروحاً ظنها قد اندملت، ومع ذلك لم أيئس وأخذت أفكر كيف سأحصل على ثمن هذه الغالية، فإن أجري كله أضعه في يد أمي، وقد حاولت مراراً أن تعطيني مصروفاً ولو بسيطاً ولكني كنت أرفض وبشدة، لكون دخلنا قليلاً وأعبائنا كبيرة، وأتت الفرصة المواتية، حين حملت بضاعة لأحد الزبائن إلى سيارته، فما كان منه إلا أن منحني مبلغاً من المال، فرحت به أشد الفرح.. وتذكرت جوزة الهند، ووضعت المبلغ في جيبي، وكنت أتفقده خلال فترة العمل خوفاً من ضياعه. وما إن انتهت فترة عملي حتى هرعت إلى بائع جوز الهند وسألت عن ثمن الجوزة، وصدمني جوابه، إذ إن ما في جيبي لا يكفي لشرائها، ووقفت حزيناً، بائساً، بعد أن أُجهضت أحلامي وأحبط مخططي في إسعاد أمي وأخذت أراقب بائع جوز الهند وهو يكسر الغلاف الخشبي المحيط بالجوزة وطال وقوفي إذ لم أشأ أن أعود إلى البيت بكل حزني هذا الذي لن أستطيع أن أخفيه عن أمي فأزيد  تعاستها بدلاً من أن أعمل على إدخال البهجة والفرح إلى قلبها، وفيما أنا واقف كسرت جوزة الهند في يد البائع وسال منها ماؤها الشهي على الأرض، وبالطبع رفض الشاري أن يأخذها على هذا الوضع، ولم أترك تلك الفرصة الذهبية تفلت من يدي، واسرعت إلى البائع قائلاً: هل آخذها بهذه النقود؟ وأخرجت نقودي بلهفة ومددت يدي نحوه ونظرت إليه وعيناي فيهما رجاء وأمل أن يوافق على هذه الصفقة المرعبة لكلينا، وتوقف برهة، وتوقفت أنفاسي معه، ومع قراره الذي سوف يتخذه، فقد يكون فيه سعادتي أو شقائي، وأخذت أرجو الله أن تكون الصفقة مربحة بالنسبة له حتى يوافق عليها، وكيف لا تكون مربحة له، فإن الناس كل الناس يشترون جوزة الهند بمائها وكمالها- أما أنا فإنني خسرت الماء من جهة، وأخذت جوزة مكسورة من جهة أخرى، وشعرت أن البرهة دهراً وقد طال انتظاري وأخيراً أخذ النقود من يدي، وأعطاني الجوزة المكسورة. وحملت كنزي الثمين وفرحتي الكبرى، وطرت إلى أمي ووجدت الطريق طويلاً بالرغم من قصر المسافة، وأخيراً وصلت إلى البيت وأنفاسي متلاحقة، والعرق يتصبب مني، ونظرت إليَّ أمي بقلق وذهول، ومددت يدي لها بالكيس ولما فتحته ووجدت الجوزة المكسورة فيه قلت لها: أعذريني يا أمي، لقد كسرت معي وأنا أركض في الطريق إليك، ولم أشأ أن أكسر بخاطرها حين تعلم أنني اشتريت لها جوزة مكسورة رفضها الشاري لذلك، لم أشأ أن أشعرها أنها أقل من الناس، ولم أشأ أن أشعرها أنها بعد أبي تنال ما يرفضه الناس، بعد أن كان يقول لها: الغالية للغالية يا حبيبتي.. ودمعت عيناها وهي تنظر إليّ.. هل هاجت بها الذكرى، ذكرى حفلة جوزة الهند مع أبي، هل هي حزينة لأيام مضت ولن تعود، هل هي فخورة بي، أم مشفقة عليّ من تحمل المسؤولية كاملة حتى كمالياتها؟!
هل شعرت أنني كبرت بتصرفي هذا سنوات في لحظات قليلة.. أم اختلطت عليها المشاعر بين الحنين والذكرى والماضي والحاضر، ونحّت جوزة الهند جانباً وقالت وهي تعانقني بكل أمومتها وحبها وحنانها:  لقد كبرت يا بني بأسرع مما أتصور وأصبحت رجل البيت، ولكن لو تمهلت في شرائها فما زال الموسم في أوله..
وما زالت.. وأرادت أن تكمل وتقول وما زالت الغالية غالية، ولكنها لم تستطع أن تتم جملتها كما كانت تقولها لأبي، فقد غصت الكلمات في حلقها، وخنقتها العبرات وتحشرج صوتها، وضمتني إلى صدرها بشدة والدموع تنهمر من عينيها.. فأجبتها من خلال دموعي: بل أنت يا أمي الغالية.