الحرية روح.. بقلم: د. عبد الرزاق المؤنس

الحرية روح.. بقلم: د. عبد الرزاق المؤنس

تحليل وآراء

الأربعاء، ٤ مارس ٢٠١٥

الحرية روح الكون والحياة والأجساد، ولن تتحقق برامج المعاني والمطالب والغايات ووظائفها في قول الله عز وجل: (إني جاعلٌ في الأرض خليفة) إلا إذا كان هذا (الخليفة) متمتعاً بأقصى مستويات الحرية في دورانه الكوني كما اقتضت مشيئة الله تعالى لوجود الخليفة، ولن يستطيع أحد أن يفهم دلالات مفهوم الخليفة إلا بوسيلة العقل السليم، وهذا هو أعظم العطاء وأبلغ النعم؛ فمن حُرم نعمة العقل فأي عطاء ينفعه؟! حتى ولو ملك الأرض كلها!!، ولم يؤذِ الحرية في وجودها الكوني الرباني الطيب شيء مثل التفلت والفوضى، أو مثل أو مثل الجهل والغباء وسوء الأخلاق، وإن للحرية مظاهر وتجليات في خدمة الحقيقة والحضارة والحياة، ولا فائدة لكل ذلك من غير عقل، بل هذا كله هو من أعظم مكونات هوية الخليفة، وهل يعقل أن يكون خليفة في الأرض وهو مسجون بقيود ضيقة لا تتيح له التصرف بالفعل أو بالمعرفة بكل ما سَخّر له الله تعالى من موجودات صُنعت لخدمته ولمصلحته وفق هدى الله تعالى الذي أنزل للتوفيق بين المسخرات ومنافعها وثمراتها، وبين الخليفة المؤتمن الوحيد في الكون المكلف بإنجاز جميع وظائفها؟! وإذا أبحرنا في أعماق الكلمة الأعظم والأقدس (الخليفة) فيجب أن نتمم فهم العلوم التي تؤلف معادلاتها، وأهمها أن نفهم المستخلف الذي شاء أن يصنع الخليفة، وأن نفهم أن هذا الخليفة هو عنوان لمعرفة الرب الله عز وجل، ولن يجعل الله عز وجل من يكون خليفة عنه إلا إذا وهبه صفات الكمال والقدسية مع إحاطته بنعمة الحرية لتحقيق التكريم بالكرامة التي تُلبسه أخلاق الله تعالى، وتحصنه بصفاته كما جاء في الحديث الشريف (تخلّقوا بأخلاق الله)، وبه يمكن فهم الحديث الآخر: (إن الله خلق آدم على صورته)، بل كيف يكون الإنسان إنساناً من غير حرية؟!
لو تأمل متفكر في أنواع الموجودات المخلوقات من جمادات وحيوانات ونباتات ثم تأمل في حكمة خلق الملائكة الذي لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون لَعلم أن الإنسان في تكوين خلقته وفي تحقيق خلافته عن الله عز وجل دون غيره من جميع المخلوقات المرئية وغير المرئية له من أسرار الكون كله ما يجمع كل تلك المهمات في المخلوقات في أمانة حملها وتحملها عن صدق ومصداقية لترقي روحه التي تسبح في جميع فضاءات الحرية والمشيئة إلى شؤون جميع الأفكار والتذوقات والتشرفات التي تختصرها آية: (قل الروح من أمر ربي)، ولو لم يكن هذا الإنسان الخليفة حراً فكيف سيصح فيه خطاب: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر)؟ وكذلك: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها)؟ وكذلك: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)، وكل هذا يقتضي لدى كل حر عاقل عالم قد آتاه الله الحكمة والفهم والتوفيق أن الإنسان يبلغ أقصى درجات كرامته وحريته عندما يحقق أقصى تكليفات الله تعالى له في عبوديته لربه عز وجل فقط وفي تنفيذ أسمى مستويات طاعاته وفق استطاعاته؛ فإنه إذا قصر في أي من تلك العبودية أو الطاعة لله وحده من غير كذب ولا غش ولا نفاق ولا تقصير، فإنه سيفسح المجال الذي أهمل مهمته في هذه الاستجابة لأن تحتله المسخرات الأخرى المكلفة لخدمته من حيث التثاقل المادي الطمعي، أو من حيث التأرجح في لهوها وهواها، وإن هذا الإنسان الحر المكرم لن يكون قادراً عظيماً إلا بقدر قربه من مالك الملك والملكوت القادر العظيم خالق كل شيء، وهو على كل شيء قدير.
(يتبع)