أفلا تبصرون (الحرية).. بقلم: د. عبد الرزاق المؤنس

أفلا تبصرون (الحرية).. بقلم: د. عبد الرزاق المؤنس

تحليل وآراء

الأربعاء، ٢٥ فبراير ٢٠١٥

عند الاطلاع العلمي المنهجي المجرد إلى نصوص القرآن الكريم يلاحظ بوضوح من غير التباس ارتفاع عال لمنسوب الحرية، لم تصل إليه جهود البشرية جمعاء، وإن هي صدقت في دعوة الحرية وترقيتها، وقريباً إلى ذلك من غير نقص دعوات الأنبياء والرسل السابقين كما أخبرنا بذلك النص القرآني الحكيم، ويخطئ من يفهم النص الإلهي الحق من خلال الآراء والمفاهيم التي طرحها غير المعصومين حتى وصل الأمر في التدخل في دعوات الهداية والإرشاد الإلهية من خلال تفاسيرها وملحقاتها إلى انخفاض مستويات الحرية بمحجوبات النصوص الاجتهادية البشرية انخفاضاً يكاد يمحو عنصر الهداية للتي هي أقوم كما هو في القرآن، وإن السجل الذهبي للحرية من منظور القرآن وما التحق به من صحاح نصوص السنة النبوية المطهرة ومثلها ما نهض به كبار علماء الصحابة وفقهاؤهم الأجلاء من مثل: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) كل ذلك إنما كان منسوجاً من حقائق مباركة بُنيت عليها منظومة الأسس؛ مجموعة كانت أم متفرقة على أساسيات الحرية التي أشرقت وأفصحت بصوت صريح عال في نداءات القرآن خصوصاً إلى النظر والتدبر والتفكر والتعلم والتعارف والتسامح واحترام حقوق المغايرة والتمايز والاختلاف والتعلم والتعارف والتسامح واحترام حقوق المغايرة والتمايز والاختلاف في أكثر من عشرات السور ومئات الآيات البيّنات من ظاهر القرآن ومن باطنه، ولعل بحثاً يَظهر عند محققين متأملين يعنونه بـ(حقوق غير المؤمنين في الدين)، وهل هناك إضاءة أوضح للدين والحرية من قول الله تعالى: (لا إكراه في الدين)؟ من سورة البقرة الآية 256
وقد وردت كلمة (لا) هنا في مقام النفي لا في مقام النهي، وهذا أبلغ، وهو يعني أن القضية أزلية في أصول مفاهيم الدين والإيمان وليس نهياً وإنشاءً جديداً جاء به الإسلام في رسالته الخاتمة، وما كان دور القرآن هذا إلا الكشف البيّن عن الحقيقة الربانية التي حجبتها أيدي متدينين تغلظت فهو مهم؛ فإن القرآن قد شدد في نصوصه على منع ظاهرة التدين الموروث التقليدي: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا؛ أوَلو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون)؟ وهذه هنا استقلالية للفرد أن يعرف الدين وفق تعقل يستعين عليه بالمصادر الصحيحة الربانية الموثقة للهداية، ثم جاء القرآن لينهى عن التدين الشكلي في شعائريات طقوسية تستغني عن روح التدين وعن مواثيقه الصادقة وعن أدبياته وأخلاقه في التحابب والتعاون؛ فقد جاء فيه: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم؟!) وفيه أيضاً (يا أيها الذين آمنوا لم تقولوا ما لا تفعلون؟ كبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)، وكأن هذه النصوص لتوحي بوضوح إلى أن روح الوحدة والجماعة إنما تنشأ من تدين حر متعقل صادق صحيح لا شكلي أرعن عن مآرب وسياسات بشرية لا تظهر الفردية والفرقة إلا على مناخاتها، ولقد أراد القرآن الكريم أن يلفت الانتباه إلى خطورة الحرية وضخامة مسؤولياتها عبر حوارية جميلة أنطقت الملائكة الذين هم عباد الرحمن من غير حجر ولا تضييق ولا تطويق مع الله عز وجل لما أعلمها إنه سيخلق في الأرض له خليفة ومن ثم البشر فيها، وقد أطلع الله تعالى مع خطابه للملائكة بعض خصائص البشرية في هذا الخليفة، وقد تأملها الملائكة وتدبروا في اختلافاتها ومستجداتها فخافوا على الفطرة النقية للحرية التي قامت بها العوالم على الأمان والسلامة وحفظ الحقوق وعلى روح الجماعة كالبنيان الواحد ووفق قول الله تعالى: (ما خلقْكُم ولا بعُثكُم إلا كنفس واحدة) فقالوا لله تعالى: (أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك)؟..
لعل ما أشكل من مفهوم الحرية وفق من نظروا إليها من منظورهم الديني أو فلسفاتهم أو آرائهم كان ذلك هو المسؤول عن جعلها خاضعة لمعياريتهم حتى أصبحنا ننظر إلى الحرية من خلال ما ألبسوها من سيئات وحسنات، ولم يعقلوا أو يتدبروا الفهم بأن الحرية هي حقيقة ربانية واحدة نظير الروح التي هي من أمر ربي لا يحيا الإنسان ولا يتعزز ولا يتكرم إلا بها، وإن كلمة: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) إذا انجَلت لنا فقهياتُها إنما تعني في أركان وجودها رعاية حقيقة (لتعارفوا)، واتقاء أي أذى أو استعباد أو فساد وفق ما وجّه وأرشد رب العالمين الرحمن الرحيم كما وردت في الآية المعروفة من سورة الحجرات: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم..)، ولكن كيف نشأت إشكالات الحرية في التدينات ومناهج الأخلاق؟! إننا عندما تضعف ربانيتنا الإيمانية في فهم وجود الخليفة على الأرض (مع رجاء التأمل بعمق في دلالات كلمة الخليفة) فإن الحرية نجعلها عن مزاعم علمية سطحية أو فلسفية إسقاطاً لكل الحواجز أو مشروطة في أسس وقواعد لوجود هذا الإنسان؛ فهل هذه الحرية تحت تصرف الإنسان أم إن هذا الإنسان تحت تصرف الحرية؟!
(يتبع)