الوحَام على الكبّة.. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

الوحَام على الكبّة.. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

تحليل وآراء

الأربعاء، ١١ فبراير ٢٠١٥

منذ أيام لم تأكل (صبرية) إلا لقيمات لا تُشبع ولا تُغني.. وكلما سألها المواطن عبد الصبور المنصوري (زوجها طبعاً): مالك يا امرأة لا تأكلين؟! يكون جوابها الإسراع إلى الحمام والإقياء.
اليوم فقط أعلنت صبرية أنها جائعة وتشتهي الكبة، وقالت لزوجها: انزل يا عبد الصبور إلى السوق واشتر البرغل والحوائج الأخرى اللازمة لها، كتم عبد الصبور ابتهاجه مما سمع، وقال: أعيدي عليّ ما قلتِ.. و هبّ واقفاً في المكان ومصفقاً ومعلناً: أقسم بالعظيم ثلاثاً إنك يا صبرية وَحْمى.. وسارع إلى السوق.
صدَق حدسه. صبرية نفسها متغيرة لأنها في بداية الحمل ببكرها، وها هي الآن تَوْحم على الكبة.. وهذه تسمية تشمل أصنافاً كثيرة: المقلية والمشوية والنيئة واللبنية والأورفلية والصاجية و.. صبرية لا تعرف أسماءها جميعاً لكنها تعرف أنّ أمها كانت تجيد صنعها وتعرف أن مذاقها لما يزل يرافقها حتى الساعة.
تذكر صبرية أنّ أمها كانت تضع البرغل الناعم المرشوش برذاذ الماء في جرن حجري تسميه جرن الكبة وتضيف إليه شرائح اللحم المعرّق، وتهوي عليها بمدقة ثقيلة، وتظل تفعل حتى يندغم اللحم بالبرغل، ثم تنتزعه من الجرن إلى طبق نحاسي وتمعن في عركه ودعكه بيديها وصباها القوي حتى يغدو مطواعاً لأي تشكيل تريد، وتذكر كذلك أنّها كانت تجد متعتها في اللعب بالعجينة الناجمة عن هذا العناء؛ تقلد أمها في صنع الأقراص فلا تفلح وهذا ما يجعلها تحوّل القرص إلى دمية من برغل ولحم، بأذنين ويدين وجذع.. ولطالما نهرتها أمها عن الشيطنة ولكن بلا جدوى.
في طريقه إلى السوق سجّل عبد الصبور على ورَيقة لديه مستلزمات الكبة: برغل، لحمة هبرة معرّقة شرائح، ثم لحمة مفرومة، ثم جوز وصنوبر ودبس رمان وفليفلة حمراء وفلفل وبصل سلموني يابس. طاف بها ساروجة كلها من سوق علي باشا حتى نهاية سوق الهال القديم، ثم انحدر حتى جامع التوبة ثم هبط حتى العمارة ثم صعد حتى البزورية ثم كوّع إلى باب الجابية واستلم بوابة باب سريجة، ثم عاد لاهثاً إلى البيت، يحمل على كتفه كيساً وفي يده رفشاً.
استقبلته صبرية هشاشة باشة، وأقبلت تساعده على إنزال الكيس فانتهرها: حاذري.. أنت حُبلى. ثم ركنّه في حديقة المنزل: نظرت صبرية ما بداخل الكيس فوجدته قمحاً. قالت: لقد غشوك أولاد الـ.. باعوك قمحاً لا برغلاً.
لم يرد عليها، بل سارع إلى أرض الحديقة يقلبها بالرفش ويسوي تربتها، سألت صبرية بانكسار: أين لوازم الكبة يا أبا صبري؟، توقف الرجل عن العراك مع التربة، واتكأ على عصا الرفش وهو يقول:
اسمعي يا ابنة الحلال، أرى أن تتخلصي من الوحام بأية وسيلة وإلا فعليك الانتظار حتى أزرع حديقة المنزل قمحاً وأحصده وأدرسه وأذريه وأصوله وأغربله وأسلقه وأجففه وأطحنه برغلاً، يكون الخروف الصغير قد صار كبشاً ذا قرنين، أضحيه شرائح ومفروماً وأضعها بين يديك مع البرغل، وتكون شجرة الجوز التي سأزرعها هنا قد أثمرت وسأبادر تواً إلى قطف ثمارها الجميلة.. أنزع قشرها الأخضر والخشبي وأكوم لبّها الذهبي قربك فتصنعين المقدار الذي تريدين من الكبة، فتأكلين وتوزعين على كل النسوة اللائي يعانين من الوحام على الكبة ولا من سبيل لديهن إليها.
ثم تابع عمله في تربة الحديقة مبربراً: أولاد الكلب.. صار للجوز أجنحة يحلق بها في الفضاء وكنا نركله بأرجلنا في الزقاق.. والصنوبر كالدواء المهرب لا حدود لسعره، ودبس الرمان حمض صناعي وصبغة ونكهة رمان. وأما اللحمة فثمنها يصيب طالبها بالتشنج من أسفل عظمة في رقبته إلى أصغر عظمة في الكاحل. سأذهب إلى البادية أبتاع من رعاتها حَملاً، أعلفه حتى يصير كبشاً، ثم.. واختفى صوته في الزقاق.