والمياه الآسنة..!.. بقلم: إسماعيل مروة

والمياه الآسنة..!.. بقلم: إسماعيل مروة

تحليل وآراء

الاثنين، ٩ فبراير ٢٠١٥

عندما نجد الحراك في أي أمر، فهذا يعني أنّ ثمة مشاغبة هبطت لتحدث مثل هذا التحرك، وثمة فرق غير محدود بين حراك إيجابي وآخر سلبي، بين حراك بنّاء وآخر هدّام، والحراك السلبي لا يختلف عن الصمت والركون إلى المياه الآسنة خطورة.. وفي الميدان الثقافي تمر أوقات لا حراك فيها، تتحول البيئة الثقافية إلى بيئة ميتة محنطة، وهذا ما يفسر عصر الدول المتتابعة، على الرغم مما شهده هذا العصر من تصنيف موسوعي لا يجارى، ولكنه بقي في إطار الجمع والتصنيف، ولم يخرج علينا ذاك المبدع الذي يعصف بالحياة الراكدة، وهنا لا أقصد الفردية بقدر ما أقصد رياح الإبداع التي تحرك كل شيء إبداعاً ونقداً ودراسة وتصنيفاً.. والهدوء السلبي الذي يشبه الحراك المدمر السلبي يصنعه مثقفون يشبهون الثقافة ولا يعرفوها، يدّعون الإبداع، وهم ليسوا أكثر من متسولين على مائدته، فأحدهم له مجموعة شعرية أو قصصية لا يحفظ هو اسمها، فما بالك بالمجتمع المتلقي؟!
يأتي الهدوء السلبي الذي يخلق بركة من المياه الآسنة من سيطرة عدد كبير أو جمهرة من أدعياء الثقافة والإبداع، يشكلون طوقاً يصعب اختصاره، ويصعب اختراقه حفاظاً على المصالح، فتتحول المطبوعات والندوات والدوريات إلى منبر لهؤلاء، والويل والثبور لمن يتجرأ على الانتقاد، فهو إن اعترض أو انتقد أو اقترب سيكون مدفوعاً من أحدهم للإساءة للدور الرائد لهذا المثقف الذي يدور على مقعده ولا يريد مغادرته، وفي أحسن الأحوال يصفه أحدهم بأنّه تابع لجهة ضد الدولة والاستقرار..
خلال ثلاثة عقود من مقاربتي عالم الثقافة والمثقفين أحاول الفهم والاقتراب وأنا على يقين بأنني لست من المثقفين بالتعريف المعهود، وهالني منذ عقود أن يختصر مثقف أو شاعر أو قاص أو مسؤول الوطن بذاته، فأنت إن انتقدت أداءه صرت طابوراً ضد الوطن الجميل المختصر في كلماته وفي نظرته الثاقبة وفي إطلالته البهية، وفي الأدب الذي يعطسه، بل وفي الدور الذي يمارسه في تكريس أصدقائه الذين يشبهونه إبداعاً وتبعية، وما عليك إلا أن تشيد بأنصاف الأميين لا المثقفين، ومن العيب أن نقول: كم حدث هذا، وإن قلت فأنت غير وطني، حاقد، موتور، مدفوع، صاحب مصلحة! ليس من حقك ألا تحب عطسة هذا أو ذاك!
كل ما يفعلونه وتبقى المياه آسنة، بل تزداد كميات التلوث فيها، دون أن يفكر أحدهم إلا بمصلحته ومصلحة أصدقائه ومريداته، وربما التفت إلى مصالح من اختاره، ولا يدري أنّ مصلحة الذي اختاره تتمثل في الإنجاز وتحريك المياه الآسنة.
كم شهدت ساحاتنا وشهدت من حراك، اجتمع فيه الأضداد، ولكنهم في المساء يسهرون معاً، ويلتقطون الصور التذكارية معاً، وفوق ذلك يشهد أحدهم بعلم الآخر دون أن يمنعه من ذلك مانع، ولن أعود إلى الرافعي وطه حسين والزيات والمازني والعقاد وشوقي.. ولا إلى جرير والفرزدق.. بل إلى الحاضر الذي تحول إلى ماض قريب، فهذا نزار قباني وأدونيس ويوسف الخال والماغوط وسعيد عقل وإلياس أبو شبكة والطنطاوي.. الحرب الفكرية بينهم ضروس، لكن تلك الحرب لم تمنع أحدهم من الشهادة لمن يخالفه وليس لمن يوافقه.. ولن يذهب من خاطري وتدويني قول أدونيس عن الماغوط: لا أشعر بالحاجة إلى قراءته اليوم، وكذلك عن يوسف الخال، وعندما تحدث عن نزار قال: الشاعر الذي يبقى حياً بيننا- ولو سأل أحدنا أيهم أقرب إلى أدونيس وفكره سيعرف كيف يكون التوافق والتخالف؟! ولو أمعنا النظر عرفنا كيف يتم الحوار لتحريك المياه الآسنة، فلا تفرح بالجوقة حولك إن كانت من اختيارك، أو كانت مفروضة عليك، بل افرح بمن يخالفك..
المياه الآسنة الثقافية العربية هي وراء كل المصائب التي أحاقت بنا، والتي ستبقى مؤثرة وفاعلة..
أنا أومن بالمجاملة في الحياة، والثقافة ضمناً، ولكن ثمة فرق بين مجاملة أو محاباة طارئة غير مؤثرة، وبين مجاملة تؤسس لأمراض لا نهاية لها، ثمة فرق بين أن تنشر فكرة، وبين أن يصبح الذي لا يقرأ سوى ذاته مقوماً وفاعلاً ومحركاً للحركة وميزانياتها لتتجه إلى أصدقائه وأولاده، وتتحول من ميزانيات إلى مفهوم الجعالة أو المكافأة..
الحراك الإيجابي لا يصنعه سوى الاختلاف، والطيف الواحد ورؤية لا يصنع إلا الخلاف، لذلك ليس من حق أحدهم أن يحرد إذا سمع كلمة عن أدائه أو عمله أو أدبه، وبدل أن يدخل قوقعته ليشتم من اختلف معه، فليفتح نوافذه للشمس والحوار لعل نتيجة ما تتفجر ذات لحظة فتحرك الروائح المزعجة المنتشرة، وبالمناسبة، فإنّ أي عطر مهما كان طيباً عندما تغلقه يصبح آسناً، فما بالك بسواه؟
نعم، إنّ المثقفين والحركة الثقافية العربية من المحيط إلى الخليج مأزومة، وهي السبب الرئيسي والمباشر فيما حصل، وأزمتنا وتطرفنا أو اعتدالنا، وهيمنة الفكر الديني كلها نتائج لأزمتنا الثقافية، والطريف أنه على الرغم من كل ما يجري لا يزال مثقفونا إلى اليوم برؤيتهم ذاتها، بل ويتمترسون وراء الأزمة لتحقق مصالحهم، وكأنه ما من أزمة حدثت!!
الكويت برؤيتها أنجبت في الستينيات والسبعينيات بفعل مثقفيها وإيمانهم بالثقافة الفكر القومي واليساري كما لم تفعل دول ادّعت التحرر، هل نتذكر أولئك الذين وجدوا مساحاتهم فيها مع محافظتها على شخصيتها التي تتنافى مع هذا الواقع..
تنفسوا غير هوائكم يا سادة الثقافة، وجربوا أن تسبحوا في المياه، ستضطرون عندها لتغيير الماء الآسن حرصاً على ذواتكم، وسنكون ضمن البركة.