العمل والمعرفة والزمن عربياً!.. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

العمل والمعرفة والزمن عربياً!.. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

تحليل وآراء

الجمعة، ٣٠ يناير ٢٠١٥

يروى عن النبي العربي قوله: "لا يقبل الله عملاً بلا معرفة ولا معرفة بلا عمل". أخذت هذا القول عن والدي مُذ كنت يافعاً، في تلك السن الطفلية كنت أستظهره دون وعي به، تماماً كاستظهار أترابي وأنا بعض شعر أبي تمام الطائي وبعض شعر أبي العلاء المعري وهما الشاعران اللذان يحرّض شعر كل منهما على إعمال العقل ليعي قارئهما أقوالهما. في الشباب ومشارف الكهولة صرنا نفهم أبا تمام في قوله:
     " مَن لي بإنسان إذا أغضبتُهُ                    وجَهِلتُ كان الحلمُ ردَّ جوابه
     وتراه يصغي للحديث بسمعه                    وبقلبه ولعلّه أدرى به "
وحين تبلورت لدينا ثنائية العمل والمعرفة في حدودها الدنيا غدونا نفهم أبا تمام أكثر، لاسيما في مثل قوله هذا:
    " إن يكد مطّرِّفُ الإخاء فإننا             نغدو ونمسي في إخاءِ تالد
     أو يختلف ماء الوصال فماؤنا           عذبٌ تحدَّر من غمامٍ واحدِ
    أو يفترق نسبٌ يوحّد بيننا                  أدبٌ أقمناه مُقام الوالد".
وكذلك نفهم أبا العلاء المعري في أمثال قوله:
    " وما دان الفتى يحجىً ولكن               يعلمه التديّن أقربوهُ
      أطاعوا ذا الخداع وصدّقوه               وكم نَصَح النَّصيح فكذّبوهُ
      وجاءتنا شرائع كل قوم                   على آثار شيءٍ رتبوهُ
      وغيّر بعضهم أقوال بعضٍ               وأبطلت النّهى ما أوجبوه
      فلا تفرح إذا رُجّبتَ فيهم                  فقد رفعوا الدّنيّ ورجّبوهُ".
وكنت كلما التقيت أستاذ الأجيال العلامة الدكتور عبد الكريم اليافي _ رحمه الله _  أؤمن إيماناً يقينياً أنّه واحد من قلة من الذين يحقّقون ثنائية (العمل، المعرفة/ المعرفة، العمل)، لهذا كنت أسعى إلى تعميم بعض معارفه العملية في كثير من الأمور الفكرية؛ ومنها مسألة الزمن في الفكر العربي فهي عنده زمن وزمان والجمع أزمنة وأزمان. والاشتقاقات كثيرة؛ أزمن الشيء: قدُم. والمزمن والزمين والزمنة وسواها..". وقال رحمه الله: لا توجد لغة مثل اللغة العربية لمن يعرفها. واستدرك بتواضع العلماء قائلاً: أنا لا أدّعي معرفتها وإنّما محبّتها، وهذه المحبة تجعلني أطلع على أشياء كثيرة من أسرارها ودررها.
   وخلال لقاء جماهيري في ندوة كاتب وموقف أوردتُ ما قاله الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي في الزمن بصيغة شعرية كهذه الأبيات:
" إن الزمان إذا حقّقت حاصله          
     محقّق فهو بالأوهام معلومُ
مثل الطبيعة في التأثير قوته      
           والعين منها ومنه فيه معدوم
أصل الزمان، إذا أنصفتَ، من أزلٍ
فحكمه أزلي وهو محكوم
مثل الخلاء امتداد ماله طرفٌ
في غير جسم بوهمٍ فيه توهيمُ".
ثم أوردت موقف الاستشراقيين الاتّهامي من الفكر العربي لعدم تقيّده بالزمن، فقد رأى (جارديه) أنّ الفكر العربي ليس لديه غير زمنٍ أفقي يتألف من آناتٍ متقطعة. كما يرى (لويس ماسينيون) أنّ الزمن عند علماء الإسلام ليس مدة مستمرة متصلة وإنما هو كوكبة من الآنات، وكذلك الشأن بالنسبة للمكان، فليس له وجود ولا توجد غير نقاط. ويؤكد (ماسينيون) كذلك أنّ النحو العربي لا يدرك أزمنة الفعل كحالات وأنّه لا يعرف غير هيئة الأفعال؛ وهي: الفعل التام (الماضي) والفعل الناقص (المضارع) التي تجدد خارج زماننا درجات تحقق الفعل الإلهي. آخرون يرون أنّ الزمان العربي ماضوي دائماً، وأنّ الإنسان العربي مشدود أبداً إلى الماضي وهذا يقود إلى السكون والثبات!. فكيف نظر الأستاذ اليافي إلى ما قالوه في الزمن عربياً؟...
    رأى يرحمه الله أنّنا نزيد بعض المعاني البسيطة غموضاً إذا أردنا تعريفها. فقد قال أحد الفلاسفة: "أنا أعرف معنى الزمن حين لا أسأل عنه، فإذا سئلت عن تعريف له تحيّرت ولم أستطع الإجابة".
    اتفق د.اليافي مع هذا القول، وأكد أنّنا نجد أموراً كثيرة معروفة، ولكن إذا بحثنا عن معانيها اضطربت الأقوال وتغايرت.... والزمن منها. ثم ضرب مثلاً وصفه بـ"البسيط جداً، بل هو شديد الوضوح" وهو (النّور)؛ فكلنا نعرف ما هو النور، ولكن هل يستطيع أحد أن يعرّفنا النور بالضبط؟! وقال: لقد اطلعنا على البحوث الفيزيائية الحديثة فتبيّن لنا أنّ التفكير في النور وفي جزئياته "كل يوم هو شأن".. في تغيّر أو تبدّل...
(يتبع...)