لماذا الحرب الآن ضد «داعش»؟

لماذا الحرب الآن ضد «داعش»؟

تحليل وآراء

الخميس، ٢٢ يناير ٢٠١٥

باتت الحرب على داعش السيمفونية الأكثر إثارة، والتي يعزف عليها الجميع الآن، ولا سيما القوى الدولية التي اتُّهِمت بأنها من أنتج هذا التيار الإرهابي ودعمه، أو من سوّق له ورعاه على أقل تقدير (إعلامياً ومادياً وعسكرياً وأخلاقياً). سيمفونية يبدو أنها تُظهر خللاً واضحاً، وازدواجية فاضحة في السياسة الأميركية والغربية تحديداً. ففضلاً عن تسمية واشنطن لداعش في العراق بأنه تنظيم إرهابي، إلا أنها تنفي تلك الصفة عنه في سوريا أو تتغاضى عنه، رغم كون التنظيم ذاته في كلا البلدين، بالقيادة نفسها، وبالمسميات والأدوات والإجرام والوحشية نفسها تحت ما يسمى دولة الخلافة الإسلامية.

لعل ما يزيد هذه الازدواجية الأميركية والغربية تعقيداً وعدم فهم (مع تنحية الحالة الداعشية في سوريا ومجازرها الكثيرة، والتغاضي الأميركي عنها) هو موقفها من هذا التنظيم ذاته في الحالة العراقية الواحدة. فبأي معنى كان يجب على العراقيين والعالم أن ينتظر حتى وصول قوات «داعش» إلى مشارف أربيل حتى يعلو الصوت الأميركي والغربي منبهاً إلى خطر هذا التنظيم. «داعش» ذاتها التي ارتكبت مجازر وحشية، تحت مرأى الأقمار الصناعية الأميركية، بحق آلاف العراقيين في الموصل ونينوى، دون أن ينبس الرئيس الأميركي أو نظراؤه الغربيون ببنت شفة. «داعش» ذاتها التي ارتكبت مجازر بحق «أقليات» أصيلة من مكونات العراق كالمسيحيين والأيزيديين، وقامت بتهجير الباقي، وسبي النساء وبيعهن في أسواق النخاسة تحت نظر العالم كله، لا أميركا وأوروبا وحدها. بل إن كل ما فعلته أوروبا وأميركا، حتى قبل وصول مقاتلي «داعش» إلى مشارف أربيل، كان فقط دعوة المسيحيين للهجرة إلى أوروبا، والإعلان عن عزم الغرب على استقبالهم وتجنيسهم. فعل غربي يبدو أنه يتناغم بشكل واضح مع فعل «داعش» ذاته، فالتنظيم الإرهابي الذي يعمل بشكل منظم على تفريغ الشرق من مكوناته وأقلياته الأصيلة، كشكل من أشكال التطهير العرقي للمنطقة. كذلك الحال للغرب الذي يدعو المسيحيين إلى الهجرة، خوفاً من داعش بدل أن يقدم لهم يد العون للوقوف في وجهه والمحافظة على بلدانهم. الغرب يمارس وجهاً آخر للتطهير العرقي في المنطقة، «داعش» بوحشيتها، والغرب بفتح يديه وتشجيعه المسيحيين على الهجرة. وهي سياسة يبدو أن كلا الطرفين يسعيان من خلالها إلى إحداث خلل في الشرق عبر تفريغه من مكوناته الأصيلة، وثقافته المنفتحة، واستبدالها ببديل ذي نمط واحد، متطرف، إرهابي يشكل خللاً وخطراً على الجميع.


الموقف الأميركي
تغيّر لأن «داعش» باتت تقارب الخطوط الحمراء

الموقف الأميركي، وعلى حين غرّة، تغيّر إزاء «داعش» في العراق، ليس لأنها قتلت الآلاف في الموصل ونينوى، وهجّرت المسيحيين، ونكّلت بالأيزيديين وسبت نساءهم وشردت الباقي منهم في أعالي الجبال ليموتوا خوفاً وجوعاً وعطشاً، ولا بسبب عشرات المجازر التي ارتكبتها في سوريا على مدى أكثر من ثلاث سنوات. بل الموقف الأميركي تغيّر لأن «داعش» باتت تقارب الخطوط الحمراء للمصالح الأميركية (كردستان). أما مبررات هذا التغير فجاهزة، وما على واشنطن سوى وصف «الروشتة» السياسية الموصوفة عالمياً «مضاد إرهاب».
الأمر الذي يعني أن أميركا لا تريد محاربة الإرهاب بذاته، وإنما تريد فقط حماية مصالحها، وضبط «داعش» وتحركاتها، ويمكنها أيضاً أن تعيد إنتاج صورة جديدة لها في مكافحة الإرهاب، ولا سيما بعد الاتهامات التي توجه لها من هنا وهناك بأنها داعمة لداعش وراعية لها. ويأتي بند حماية مصالحها فوق أي اعتبار، فالضربات العسكرية لمواقع «داعش» في العراق لم تأت لحماية وخدمة الأمن العراقي ووحدة البلاد كما يصورها البعض، ولا تنفيذاً للاتفاقية الأمنية بين البلدين والمسماة «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، وخاصة بعد عدم استجابة واشنطن لطلبات الحكومة العراقية بمساعدة الجيش العراقي للوقوف في وجه «داعش»، غداة مسرحية الموصل الداعشية، وقيام مقاتلي هذا التنظيم الإرهابي بذبح أكثر من 1700 عراقي في الموصل ونينوى، وارتكابهم مجازر بحق المسيحيين والأيزيديين. الضربات العسكرية الأميركية في العراق جاءت عندما اقترب التنظيم الإرهابي، أو كما يقول البعض «عناصر غير منضبطة منه»، من الخطوط الحمراء للمصالح الأميركية فتحركت المقاتلات لتأديب الشاذين. وبذلك تكون واشنطن قد حققت هدفاً آخر في الوقت ّاته، وهو التنصل من مسؤولية إرهاب «داعش» الذي وجهه العالم لها.
إن تطبيق هذا الكلام في السياسة ظهر واضحاً في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2170، والذي خلا من أية آليات فعلية حقيقية من شأنها أن تفضي إلى محاربة الإرهاب المتمثل اليوم بـ«داعش» و«جبهة النصرة». القرار، ورغم أهميته الإعلانية والتوثيقية، في توصيف المنظمتين بأنهما إرهابيتان، وإدانة من يساعد في تمويلهما، إلا أن ذلك غير كاف لمحاربة الإرهاب. فـ«داعش» باتت تمتلك مصادر تمويل خاصة بها، وآليات حكم يمكنها أن تدير شؤونها، فضلاً عن القدرة العسكرية التي زودت بها من الغرب وأميركا حتى قبيل صدور القرار الدولي. يضاف إلى ذلك الرعاية الدولية لها، وتسويقها إعلامياً بأنها الخطر والقوة التي لا يستطيع أحد أن يقف في وجه وحشيتها.
وحشية «داعش» المقصودة بذاتها، والتي تم الترويج لها إعلامياً بطريقة مدروسة وممنهجة، وغاية في الدقة، إلى الدرجة التي تدفع مقاتلي أي تنظيم لا يتفق مع داعش إلى الهروب خوفاً من بطشها، أو إعلان الولاء لها حتى قبيل وصول مقاتليها إلى المنطقة المقصودة.
هنا يمكن طرح الكثير من الأسئلة حول ملابسات القرار وتفصيلاته والنتائج المتوقعة منه. ليس أولها لماذا لم يدرج اسم أبو بكر البغدادي وأعوانه المباشرين على قائمة الإرهابيين التي أصدرها المجلس، والتي تضمنت ستة أسماء (خمسة لأعضاء في جبهة النصرة، وواحد في داعش)؟ من الذي يزود «داعش» بالمخططات التفصيلية للمدن العراقية والسورية التي تدخلها مستغلة نقاط الضعف هنا أو هناك، والثغَر التي يمكن الاستفادة منها؟ علماً بأن هذا النوع من المخططات عادةً ما يكون صوراً للأقمار الصناعية. السؤال الأبرز ربما، هو أن الغرب وأميركا يعلمون تماماً من يمول «داعش»، وكيف يصل المقاتلون والعتاد إليها، وهم أيضاً مشاركون تماماً، في تمويل التنظيم إعلامياً، ومالياً وعسكرياً، بل وبعضهم بات مستورداً أساسياً «لصادرات» داعش النفطية، ومصدراً لعتادها العسكري النوعي؟
إن مكافحة الإرهاب، سواء «داعش» أو غيره (الإرهاب هو واحد من أفغانستان إلى الصومال، نيجيريا، سوريا، العراق، حتى في متطرفي أوكرانيا)، تقوم على أسس واضحة ومعروفة، وآليات لا يمكن إلا أن تكون على مستوى التنسيق الدولي والإقليمي للدول التي تعاني منه. المكافحة لا تقتصر على تدمير القوة العسكرية لداعش أو غيرها، بل بالقضاء على الفكرة التي تقوم عليها هذه التنظيمات «الجهادية» الإرهابية ومحاربتها، لا تغذيتها واستخدامها من قبل بعض الدول كوسائل وأدوات جديدة في سياستها الخارجية.
وهو على ما يبدو، حتى الآن، غير متوافر في النوايا والأهداف والمصالح الغربية والإقليمية. وإلى أن يستيقظ الجميع ويدركوا أن «داعش» هي خطر وجودي يتهدد الجميع، وأن وهم الاستثمار السياسي فيها هو انتحار جماعي، تكون «داعش» قد أصبحت في عقر دارهم لتطبق على بلدانهم هذه المرة فلسفتها في «إدارة التوحش»!