الجزيرة.. من الصدارة إلى الحضيض

الجزيرة.. من الصدارة إلى الحضيض

تحليل وآراء

الجمعة، ٢ يناير ٢٠١٥

قبل أيّام، أعلنت «الجزيرة» في بيان أنّها احتلّت المرتبة الأولى عربياً من حيث عدد مشاهدي القنوات الإخباريّة العربيّة للعام 2014، بنحو 23 مليون مشاهد يومياً.
استندت القناة في أرقامها إلى دراستين مستقلّتين صدرتا عن شركتي «إيبسوس» و«سيغما» للإحصاء. وجاء في البيان أنّ «الجزيرة» نالت «أعلى نسبة من المشاهدين العرب بمعدّل يفوق أقرب أربع قنوات منافسة مجتمعة، وهي قناة «العربية»، و«بي بي سي عربية»، و«فرانس 24»، و«سكاي نيوز عربيّة».
«الجزيرة» من الصدارة إلى الحضيضوقبل يومين أيضاً، بلغ عدد متابعي القناة على «فايسبوك» عشرة ملايين، لتكون بذلك أوّل قناة إخباريّة عربيّة تحظى بهذا العدد من المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي احتفلت به «الجزيرة» المحاطة بعلامات استفهام كثيرة، سواء لناحية المصداقيّة أو الشعبيّة، خصوصاً أنّها اختتمت عامها بإقفال قناة «الجزيرة مباشر مصر»، في حين يحيط الغموض بمصير صحافييها المسجونين في مصر. قد لا تعدّ الأرقام مؤشراً حقيقياً على شعبيّة القناة، خصوصاً في ظلّ التحوّلات التي طرأت عليها خلال السنوات الأربع الماضية.
في تسعينيات القرن الماضي كان الفضاء الإعلامي العربي يعاني من فراغ فشلت محطات التلفزيون الحكومية في سدّه، فيما كان الإعلام يتحضر للدخول إلى القرن الواحد والعشرين ــ عصر شبكات التلفزيون الضخمة، ذات التمويل والنفوذ العابرين للحدود.
وكان الواقع الجيوسياسي المتغيّر، بعد انهيار حلف وارسو وانزياح العالم نحو قطبيّة أحاديّة تسوّق لرؤيتها الخاصة للمنطقة وإعادة رسمها ككل، يحتاج لأدوات إستراتيجيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وإعلاميّة عالية الحرفيّة. في هذا الخضم، ولدت قناة «الجزيرة» في قطر التي ستهيئ لها تلك القناة بالذات، مع الكثير من دبلوماسية شيكات البترودولار، المجال لتلعب دوراً إقليمياً يفوق حجمها الجغرافي والتاريخي والسياسي، ولتقود إحدى الفترات الأكثر اضطراباً في تاريخ المنطقة في ما سمي «الربيع العربي».
انطلقت «الجزيرة» في العام 1996، وذلك بعدما قرّرت «بي بي سي» إغلاق قناتها الناطقة بالعربيّة بعد خلاف مع الحكومة السعوديَّة المموّلة لها حول حدود حريّة التعبير عن الآراء ونشر المعلومات. قدمت «الجزيرة» في حينها للمشاهد العربي صورة مختلفة تماماً عمّا عهده في محطاته المحلية، وسرعان ما تنامت شعبيتها لتصبح المحطة الأكثر مشاهدة في العالم العربي. دفعت «الجزيرة» حدود حريّة العمل الإعلامي إلى مدى لم تصله أيّ محطّة عربية من قبلها، وتحدّت الكثير من المحرّمات، ولكن مع الالتزام الحريص بالخطّ الأحمر الذي يحيط بالنظام الحاكم في قطر وخفايا السلطة والأسرة الأميرية. وتحت شعارها البراق «الرأي والرأي الآخر»، أصبحت «الجزيرة» ذراع قطر الضاربة التي تهدّد بها أي دولة قد تسوء علاقاتها معها بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي.
وفي تغطيتها للحرب في أفغانستان، اصطدمت «الجزيرة» مع أميركا في بعض الأحيان، خصوصاً عندما أطلق عليها لقب «صندوق بريد أسامة بن لادن» الذي اختصها برسائله المصوّرة والصوتيّة، فيما كانت قطر توسع تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة وتعمل على استضافة القيادة المركزية للجيش الأميركي في المنطقة. لكن بالمجمل، عمدت المحطة إلى خلق توازن دقيق في قولبة شخصيتها لكي تسترضي العرب والمسلمين في مواكبة قضاياهم المصيريّة من فلسطين إلى العراق وأفغانستان ومناطق أخرى، وتحافظ في الآن ذاته على علاقة جيدة وتنسيق مع دول الغرب.
الانفتاح على «الآخر»
مظاهرة ضد قناة الجزيرة في مصركان باستطاعة «الجزيرة»، خلال فترة عمل امتدت على ما يقارب العشرين عاماً، خلق ثقافة عربية عقلانية تروج لتفكير نقدي جديد، إلا أنّها على العكس لم تخرج من «بيئتها الحاضنة» التي تتميز بانعدام الحوار، وتسودها ثقافة لامدنية وتقوم على الاقتتال والتعصّب. وهكذا جاء واحد من أكثر برامجها شعبية، «الاتجاه المعاكس»، انعكاساً لثقافة الجنون السائدة، لا ينجح سوى في إثارة المشاعر الانفعالية، بل ويغرق في التفاصيل الشيطانيّة التي يضيع معها أي معنى أو هدف.
وخلف ستار الانفتاح على «الآخر»، رسخت «الجزيرة» عدّة مواضيع إشكاليّة بدل تفكيكها... فغالباً ما تعمّقت الهوة بين العلمانيين والمتدينين وبين «السنة» و «الشيعة» في حوارات غاضبة لا طائل منها، فيما ترك الهواء مفتوحاً للناطق باسم الجيش الإسرائيلي من دون مقاطعة أو مساءلة في عملية تطبيع إعلامي ممنهج. وهكذا أيضاً أسّست «الجزيرة» لتقليد لم يكن مألوفاً كثيراً من قبلها، وهو استقبال رجال الدين في برامج حوارية ذات طابع سياسي ــ ديني في تسويق مكثف للفكر الإسلامي والإخواني على وجه الخصوص. ولـ «تزيين» كل تلك الإشكاليات، عملت «الجزيرة» على استجلاب وجوه مشهود لها في ميادين الفكر والنضال القومي، مثل محمد حسنين هيكل وعزمي بشارة.
ساهمت كلّ تلك الجهود في تهيئة الأرضيّة لحدثٍ مركزي في مسيرة القناة، وهو اندلاع شرارة «الربيع العربي»، والذي أظهر شهية قطر المفتوحة دوماً للعب دور إقليمي أكثر تأثيراً من حدود استوديوهات «الجزيرة».

مصر وسوريا والبحرين
كانت مصر النقطة المفصلية الأهم بالنسبة لقناة «الجزيرة»، وذلك بسبب كثافة الحراك المدني الذي جرى في ميدان التحرير ومواقع أخرى، ولأهمية مصر ذاتها على الصعيد الإقليمي خاصة وأنها تؤوي تنظيم «الأخوان المسلمين» الأم. في البداية، اعتبر «شباب الثورة» في مصر أن «الجزيرة» راعيهم الإعلامي الرسمي وخلال واحدة من اللقطات، حمل الشباب يافطة ضخمة تحمل خبراً عاجلاً حول تنحي الرئيس حسني مبارك، وذلك قبل حدوث ذلك التنحي فعلياً، وقد حملت تلك اليافطة نفس تصميم وخط الخبر العاجل المستخدمين على شاشة «الجزيرة».
وجاءت صدمة الشعب المصري وانقلابه ضدّ بثّ «الجزيرة» عندما وقفت هي ضدّه في رفضه لحكم الأخوان وانتفاضته الثانية من أجل تنحية الرئيس الاخواني المنتخب محمد مرسي المدعوم بقوة من قبل قطر، وقد استمرت لغاية اليوم بتسميتها انقلاباً عسكرياً وهو أمر لم تقدم عليه الحكومة الأميركية ذاتها بحسب «واشنطن بوست». وبانتقال السلطة في قطر من حمد بن خليفة آل ثاني إلى ولي عهده تميم، تبلور دور «الجزيرة» أكثر فأكثر لتصبح بحقّ الناطق الرسميّ باسم «الأخوان المسلمين»، ولتعمل على خلق شعبية افتراضيّة لهم على شاشتها، عبر تقريب العدسات على حشودهم الضئيلة أو تقسيم الشاشة إلى عدة مشاهد للإيحاء بأن عدة مظاهرات حاشدة تحدث في الآن ذاته.
وفي سوريا، أعطت «الجزيرة» مساحات كبيرة من البث لصالح الأصوات المعارضة مع منحها المصداقية الكاملة، في حين عمدت إلى استهجان وإهانة وإسكات أي صوت آخر، سواء كان ممثلاً للحكومة السورية أو وسطياً في طرحه. وكما هي الحال في تغطيتها لأحداث ليبيا، دعمت القناة الحراك المسلّح في الأزمة السوريّة وغطّته في العديد من النقاط الساخنة. كما ظهرت تقارير تؤكد فبركة «الجزيرة» لكثير من المشاهد والاتصالات المباشرة، وتضخيم أعداد الضحايا باستخفاف بعقول المشاهدين.
هكذا حاولت «الجزيرة» أن تبدو وكأنَّها تناصر قضايا الشعوب العربية ومطالبها، ولكن هبت رياح «الربيع العربي» بما لا تشتهيه عندما وصلت البحرين وكشفت ازدواجية معاييرها واستخدامها لتعابير لطالما هي نفسها سخرت منها لدى الآخرين. فأصبح شباب البحرين في ساحة اللؤلؤة مخربين ومرتهنين لمشاريع خارجيّة، ينفذون مؤامرات تهدف إلى زعزعة استقرار البلد، وأصبح التدخل العسكري السعودي لقمع الانتفاضة فعلاً مشروعاً، من ضمن إطار اتفاقيات مجلس التعاون الخليجي.

سقوط حلم
الجزيرة وسياستها المشبوهةجاءت كل تلك التحولات والأحداث لتسبب تغيراً هائلاً في مصداقية القناة الإعلامية من جهة، وفي شعبيتها الجامعة على الصعيد العربي من جهة أخرى، بالرغم من ترويج القناة للعكس. فبعدما كانت المحطة الأبرز لدى العديد من المسؤولين الحكوميين والمثقفين والمحللين والمشاهدين على حد سواء، أصبحت اليوم قناة ثانوية تبرز هويتها السياسيّة والطائفيّة بوضوح في خرق فاضح للعديد من المعايير الإعلاميّة والأخلاقيّة والمهنيّة، وانسحب منها ألمع مراسليها ومذيعيها وضيوفها.
وإذا ما كانت «الجزيرة» قد تأسَّست كمشروع إعلامي بديل ومضاهٍ لمحطّات عريقة مثل «بي بي سي» و«سي إن إن»، فيبدو أنَّها قد انتهت لدى الكثيرين من متابعيها لتصبح مجرّد واجهة إعلاميّة للمشروع الإخواني وحده، وصورة واضحة عن أساليب الكذب المشهدي والإسفاف والتهريج والتورط السياسي في اصطفاف بعيد كل البعد عن الموضوعية والحياد في التغطية والتقديم. وقد تكون الخلاصة في ما أشارت له بعض المصادر لـ «السفير» إثر استقالة مدير مكتب القناة في بيروت غسان بن جدو العام 2011، قائلةً «إنّ قناة الجزيرة أنهت حلماً كاملاً من المهنية والموضوعية، وباتت تلك المهنية في الحضيض، بعدما خرجت عن كونها وسيلة إعلام، وتحولت إلى غرفة عمليات للتحريض والتعبئة».