شيخ مشايخ الحِرف الدمشقية!.. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

شيخ مشايخ الحِرف الدمشقية!.. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

تحليل وآراء

الاثنين، ٢٢ ديسمبر ٢٠١٤

أبقى الباحث المرحوم الياس قدسي لنا ولمن يتبعنا من الأجيال فصولاً في بحثه التراثي عن الحِرف الشامية (الدمشقية) جاعلاً الفصل الأول من بحثه بعنوان "في شيخ المشايخ"؛ ثم أورد اسمه وبيّن مكانته الاجتماعية في القرن التاسع عشر الميلادي، وأخبرنا أنه ثابت في مشيخته حتى الوفاة دون تغيير أو تبديل ودون وجود أي منازع له أو طامع. ونعرف في معرض بحثه أنّ هذه الصفة المعروفة بشيخ المشايخ كانت في زمنه "للسيد الشيخ الحاج أحمد أفندي منجك". ويصفه قدسي بأنّه "أرشد عائلة بني عجلان من أشراف دمشق، ومن السلالة النبوية الشريفة". وسنفهم من تقصّي قدسي لتسمية (منجك) بأنها نسبة لإحدى جدات العائلة التي كانت من بلاد التتر. وأمّا سائر العائلة فلم يزل محافظاً على تسمية العجلاني؛ وشيخ المشايخ الذي في رأس أرومة هذه العائلة يسكن في بيته المعروف بالقرب من الجامع الأموي ويعيش من إيراد أوقافه في ضواحي دمشق. ولبعض أفراد العائلة مداخلات في خدمة الحكومة المحلية، وهم حائزون على امتياز عظيم – حسب تعبير الياس قدسي – ولاسيما السيد الشيخ محمد أفندي العجلاني أحد أعضاء مجلس استئناف الولاية. ويصف الياس قدسي شيخ المشايخ (أحمد أفندي منجك) بأنّه على جانب عظيم من التقى الإسلامي ويعرف فروض الكفاية في الفقه الديني ولكنه ليس على شيء كثير من العلوم الرياضية وبأقل من ذلك على صنعة أو حرفة "وهو طويل القامة ذو منظر وقور، وقد كلمته فكان كلامه بسيطاً لا يدل على تصنّع ولا عجرفة".
 هذا الذي كانت أسلافه تعيّن المشايخ لأكثر من مئتي حرفة، وتأمر وتنهى وتقاضي وتفصل كلّ مسألة وتحسم كل مشكلة لديهم بتقاضي الجميع، وهو الشيخ عليهم الآمر الأعلى والحاكم الأعظم – كما يصفه قدسي – وهو الرئيس الأسمى الذي لا يُنتخب ولا يُعزل ولا يبدّل ولا يخلعُه من منصبه إلا الموت أو الاستقالة.
 أما عن شيخ الحرفة فيخبرنا المرحوم قدسي أنّ لكل حرفة شيخاً ينتخبه شيوخ الكار ممّن اشتهر بحسن الأخلاق والطوية وامتاز بمعرفة أصول الحرفة. ولا يُشترط به كونه أكبرهم سناً أو كونه من الشيوخ فعلاً فيجوز أن يكون حديث السن إلى حدّ معلوم، فإنّ شيخ حرفة (القفيلاتية) سنه من 25 إلى 30 سنة، وشيخ الجليلاتية من 20 إلى 27 والكمرجية 20 تقريباً. والقاعدة بذلك أن يكون حاوياً حسن الصّفات وعنده العلم بأمور الكار وأن يكون ذا وجاهة ومن المحتمل -حسب قدسي- أن لا يكون هكذا فعلاً ويكفيه أنّه حاز على هذا الصيت عند أهل حرفته بنجاحه يوماً ما بحل مشكلة.
 وفي بعض الحرف تنتقل المشيخة بالإرث من الأب للابن، وهذا لا يخالف قاعدة الانتخاب لأنه -حسب قدسي أيضاً- لا يكون إلا بسماح من شيوخ الكار مراعاة لخدمات الشيخ المستوفية، وأما إذا رُئي انتخاب غيره أكثر موافقة فيجرون الانتخاب دون مراجعة. أما مدة الشّيخة فغير محدودة، فيلبث الشيخ طول حياته شيخاً ما لم يجر منه ما يوجب إبداله بسواه.
 ومن حقوق الشيخ أن يعقد مجالس لصالح الحرفة يترأسها ويسهر على حفظ ارتباط الكار، ويُقاص من أتى بإخلال في حق الصنعة، وكثيراً ما يكون مكلفاً بإيجاد شغل للفعلة فيوصي بهم المعلمين، وله وحده الحق أن يشدّ بالكار المبتدئين الماهرين فيصيرون صناعاً أو معلمين.
 رحم الله جدّنا العلامة الراحل الياس قدسي الذي وصَّفَ لنا رجال الحرفة الشامية في زمنه وجعلنا نستنتج كم كانت متقنة وكم كانت مراقبة ذاتياً وكم كانت ذات مصداقية تشير إلى مصدرها بتقدير واحترام وإقبال عليها لأنها من عطاء الشام، وقد كان السيف الدمشقي واحداً من هذا العطاء. وشكراً لمديرية تربية دمشق التي سمت مدرسة باسمه، وشكراً لصديقنا الدكتور أحمد إيبش الذي أورده في دفاتره الشامية.