عندما تبحث عن نفسك فلا تجدها!.. بقلم: غسان يوسف

عندما تبحث عن نفسك فلا تجدها!.. بقلم: غسان يوسف

تحليل وآراء

الاثنين، ١٥ ديسمبر ٢٠١٤

عندما تمشي بين الناس ولا أحد يميزك، ولا أحد يناديك باسمك.. تبحث عن نفسك فلا تجدها، وعن اسمك فلا تعرفه.. تدرك أنّك لست إلا رقماً بين البشر، وأنك لست مهما كما تتوقع، ولست مشهوراً كما تدّعي، ولست معروفاً كما تظن، وأنّ إمبراطورية الوهم التي بنيتها لنفسك تشبه حكاية ثوب الأمير العاري, وأنّ كل ما كنت تفكر به كان مجرد حلم، أما الحقيقة فهي أنّك ضائع تائه تسير فلا أحد يعرفك، وتكتب فلا أحد يقرأ لك، وتلقي خطاباً في ضرورة احترام القانون فتسمع كلمة (كذاب)، تتحدث في الوطنية فتتردد في أذنك كلمة (مزاود)، تطالب بضبط الأسعار فيقولون جاء (المفسفس)، تطالب بتعبيد الطرقات فيقولون لا هم لنا إلا تعبيد الطرقات لسياراتك وأنت لا تملك حتى سيارة واحدة! تتحدث مع زوجتك فتسألك عن اللحمة والخضرة وتشكي لك شغب أولادك وهموم الطبخ والنفخ والوظيفة وثرثرة زميلاتها وتفتح لنفسك ألف باب وباب.. فتقول في نفسك الهريبة تلتين المرجلة!
تسأل ابنك عن علاماته فيتلعثم ويتهرب ويشكي لك المدير والمدرس ورفاق السوء.
تقف أمام بيتك لتسلم على جارك فيهرب منك لعلك تقبل عزيمته العابرة فتدخل بيته وتشرب فنجان قهوة، أو لعلك تريد أن تقول له خفف من ضجة أولادك، أو لا ترمي زبالتك، أو انتبه إلى حنفياتك فمياهك تشرشر علينا.
تحرك بيدك لتسرح بعض شعرات على رأسك مازالوا يقاومون الدهر فتجد جارتك ترمقك بخبث قائلة في نفسها لعله متخانق مع زوجته.
تهرب إلى وظيفتك لعلك تشغل نفسك وتؤدي واجبك فترى من يبالغ في احترامك ويسارع في تمسيح الجوخ لك - كما يقال - فتحن عليه وتقول له أنا في خدمتك فيمطرك بطلبات تكون أنت ترفعت عن طلبها لنفسك!
أما الموظفات ربات البيوت فلا يتركن هاتفك يهدأ.. فهذه تقول لك: زوجي محامٍ وعاطل عن العمل لأنّ الناس صارت تأخذ حقها بيدها، وأخرى ابني الصغير في البيت وحيداً بعدما هجرني أبوه وطلب اللجوء الإنساني إلى إحدى البلدان لكنه أقسم أنّه لم يفعل ذلك بسبب نقي بل بسبب الأزمة، وأخرى أرملة استشهد زوجها في الحرب ومن حقها عليك أن تهتم بها وتساعدها على الدهر لا أن تكون أنت والدهر عليها.
أما الموظفون الرجال فكان الله في عونهم.. موظف يبحث عن جرة غاز، وآخر ينتظر على الفرن، وثالث يقف في طابور كالونات المازوت... الخ
تهرب من عملك لتطلب سيارة من المرآب تقلك إلى منزلك بعد يوم من العناء مع الموظفين وتعب العمل فيقولون لك ليس لدينا بنزين ولا مازوت والسائقون في البيوت والطرقات مقطوعة.. دبر حالك اليوم لنحلها بكرا.. ويأتي بكرا وبعدو ولا تحل المسألة وتظل الأمور معلقة بالأمل.
تفكر قليلاً وتقول في نفسك.. لأذهب إلى المقهى أجلس قليلاً مع صديق أحكي له وأفش قهري فما إن تكلمه حتى يقول لك: ابن حلال – وكأن شكاً يساوره أنك ابن حرام - والله كنت سأتصل بك، ويبدأ.. هذه البنت الكلب تعذبني.. يقصد زوجته، أو ليقول لك هادا الابن الحرام فتعرف أنه يتكلم عن مديره أو جاره أو أخيه، أو ختيار الجن فتعرف أنه يصف أباه أو حماه.. تعال لأحكي لك ويحكي ويحكي وينتهي اللقاء ولا تنبس أنت ببنت شفة ولا تفش خلقك بكلمة واحدة، عليك أن تسمع وتدفع.
تخرج إلى الطرقات الموحشة لا سيارة تنقلك ولا شخص يؤنسك تفكر وتتساءل ما العمل؟ تعود متأخراً إلى بيتك تعرف أنّ الجميع ناموا تشعل التلفاز فتنقطع الكهرباء، تندس في فراشك دون أن يدري بك، صباحاً تتأخر في النوم قليلاً حتى تعرف أنّ البيت فرغ من الزوجة والأولاد فتدندن أغنية وتشرب قهوة.. تلبس ثيابك وتعود لتبدأ دورة الحياة من جديد.
تخرج إلى الشارع فتسمع تغريد العصافير، وتدفئك الشمس بحرارتها الصباحية، وتنظر فترى طفلاً يبتسم وأماً ترد له الابتسامة، فتعرف أنّ الحياة مستمرة وأنّ الدنيا ليست مقتصرة عليك ولا مكترثة بهمومك.