دمشق البحتري ودمشق المنجّد !.. بفلم: عبد الرحمن الحلبي

دمشق البحتري ودمشق المنجّد !.. بفلم: عبد الرحمن الحلبي

تحليل وآراء

الخميس، ٤ ديسمبر ٢٠١٤

لم يكن الشاعر البحتري أول زائر لدمشق من العصر العباسي، ولم يكن آخر زائر.. لكنه كان وظلّ صاحب هذا القول فيها:
" أمّا دمشق فقد أبدت محا         سنَها وقد وفى مُطريها بما وَعدا
يُمسي السحابُ على أجبالها فِرقاً     ويصبح النبتُ في صحرائها بَددا
فلستَ تُبصرُ إلّا واديا خضراً         أو يانعاً خَضِلاً أو طائراً غَرِدا
إذا أرَدتَ ملأتَ العين من بلدٍ         مُستحسنٍ وزمانٍ يُشبه البلدا ".
أمّا الصلاح المنجد أو صلاح الدين المنجد – رحمه الله – فما نَحسب أنّه قال فيها شعراً، لكنّا ندري بجوانب غير قليلة بما نشر من كتب فيها وعنها وقد كان منها كتابه الذي بعنوان "مدينة دمشق" كما رآها الجغرافيون والرحالون المسلمون.
   جمع الصلاح المنجد مادة كتابه هذا مِمّا ورد في كتابات الجغرافيين الرحالين ومن العلماء الذين مروا بدمشق وهم غرباء عنها؛ وقد حدّد مراجع بحثه في الكتاب انطلاقاً من القرن الثالث حتى الثالث عشر هجرياً. عشر سنوات أعطت المنجد ما يحتاجه منها، ثم أعطانا المخطوط منها والمطبوع! بلغ من نقل عنهم –من عالم ومؤرخ وأديب– أربعين اسماً وأورد لكل منهم خلاصة عن حياته: مولده ونشأته... ثم يعقب على ما كتبه هذا الاسم أو ذاك عن دمشق من نثر أو شعر. "ومن يبدأ بهذا الكتاب لا يملك نفسه أن يتركه قبل أن ينتهي من آخر صفحة منه" حسب ما رآه العلامة عارف النكدي.
    تقرأ في هذا الكتاب الممتع المفيد من طرائف ولطائف تبدي لك عن محاسن هذه المدينة ما يتحقق لديك ما قرأته للبحتري من شعر فيها وعنها. ثم تكتشف لدى المنجد ما أورده عما فيها من عاداتٍ وأعراف وعما لاقته في حياتها الطويلة من رفعة وعزة، وضعة وذلة، واستقلال واستعباد، وما فيها من معاهد ومدارس ومن جوامع وكنائس ومن ضياع ورباع ومن متاجر ومصانع ومن أسواق وحمامات... وما هم عليه أهلها من لطف ولين.
   وإذا كنا قد أوردنا في مقالاتنا المقتضبة السابقة ما ذكره أبو البقاء البدري عن محاسن الشام فإنّ صلاح الدين المنجد يعطي جوانب من فضائل أهل دمشق فيرى أنّ أحداً من أهلها لا يفطر في ليالي رمضان وحده البتة، فمن كان من الأمراء والقضاة والخبراء فإنه يدعو أصحابه والفقراء يفطرون عنده. ومن كان من التجار وكبار السوقة فعل مثل ذلك ومن كان من الضعفاء والبادية فإنّهم يجتمعون كل ليلة في دار أحدهم وفي مسجد. ويأتي كل واحد بما عنده فيفطرون جميعاً.
وكان القاضي المرحوم عارف النكدي قد ذكر أنّ دمشق حافظت على عاداتها هذه فكان وجوهها وأعيانها يدعون في جملة من يدعونهم إلى إفطار رمضان كبار الحكومة. ويقول النكدي: "وما كنت أحب هذه الدعوة لرجال القضاء. وكان يزعجني أن أراهم جماعة جماعة في سوق الأروام ينتظر بعضهم بعضاً حتى إذا تكامل عددهم ذهبوا إلى حيث هم مدعوون. فطلبت إليهم أن يمتنعوا عن قبول هذه الدعوات فقد تجر إلى الخروج أو إلى الاتهام بالخروج عما يتطلبه القضاء من تجرد وحياد. ففعلوا. فارتاحوا وأراحوا". ثم يخبرنا بأنّه أدرك هذه الدعوات يوم كان الرئيس محمد علي العابد رئيس الجمهورية السورية يدعو إلى مائدته في رمضان الوزارات على التعاقب: وزارة وزارة. وزيرها ورؤساءها وأركانه ثم المتعاقدين والمحامين والوجوه والأعيان ثم أرباب المتاجر والمصانع بحيث لا تخلو مائدته في ليالي رمضان من عشرين إلى ثلاثين مدعواً. جرى في هذا على سنة دمشق وعلى طريقة وزراء الدولة في الآستانة، ثم هو يودّع أضيافه على باب داره بكل ما أوتيه من لطف وتواضع.
    ونتبين هذه الأخلاق الدمشقية في ناحية ثانية من نواحي الآداب الاجتماعية فأنت قلَّ أن تعرف صديقاً رفعته الأقدار إلى منصب لم يكن ليحلم به إلا شمخ بأنفه وتعالى عمن كان يعرفهم، ونجد الدمشقي وقد بلغ أسمى المراكز – رئاسة الجمهورية مثلاً – مازال على كثيرٍ من الوضع الذي كان عليه من قبل، ويظل في كثير من مجالسه على ما كان عليه من ظرف ولطف ونكتة. هذا ما رآه الأستاذ عارف النكدي الذي أقام في دمشق نحواً من أربعين سنة وأنّه من القضاة المعروفين كما كان من أعضاء المجمع العلمي العربي وقارئاً يحسن ما يقرأ سواء كان عرضاً أو نقداً. لهذا فهو يرى: إذا كان كتاب "مدينة دمشق" قد جمع ما قيل في دمشق من قبل، فلابد أن يضاف إلى ذلك ما كان في هذه المدينة الجبارة من وطنية صادقة حمل السلطات الأجنبية في كثير من الأحيان أن تحني أمامها رأسها. ورأى كذلك أنّ السياسة والعمل في دمشق غالبان على الأدب. وقضت دمشق في جهادها ربع قرن حتى جلا المستعمر عنها كما جلا غيرهم من المستعمرين من قبل. وإنّ لدمشق أن تفخر بصلاح الدين المنجد كما كان يفخر بها على مدى حياته كلها مقيماً فيها أو نازحاً عنها؛ ونحن إذ نذكر بعض ما لديه فإنما نستعيد به ما كان لهذا العلم الثقافي الخفاء من وجود وطني وقومي. وهذا البحتري يتابعنا فيقول:
"العيش" في ليل داريا إذا بردَ        والراحَ نمزجها بالماء من بردى
أمّا دمشق فقد أبدت محا           سنها وقد وفى مطريها بما وعدا
إذا أردت ملأت العين من بلدٍ        (مُس...) وزمان يشبه (ال...)!!