عقدة التاريخ وتعقيدات المصالح، العثمانيون الجدد الى أين؟

عقدة التاريخ وتعقيدات المصالح، العثمانيون الجدد الى أين؟

تحليل وآراء

الأربعاء، ٣ ديسمبر ٢٠١٤

 لطالما شكلت تركيا همزة الوصل الكبرى بين الغرب والشرق، تلعب أدوارها بحنكة ودهاء وأحيانًا بنفس المقامرين. فتركيا التي استفادت من حقبة الفوضى الاستعمارية، عرفت كيف تسرق لواء الاسكندرون بالاستفتاء الزائف عام 1939 ثم تماهت بعدها بالمشروع التقسيمي الشهير (سايكس –بيكو) لتسلب الاكراد حقهم بوطن قومي خالص لهم، ولم تتوقف عند هذا الحد لتكون من أوائل الدول الاسلامية في الشرق الاوسط التي تعترف بالكيان الصهيوني وتوثق علاقتها معه ضمن خيار سياسي يرى في التعاون التركي الصهيوني كسباً لود الغرب وتمكيناً في تعاظم دورها في المنطقة.

تركيا التي لطالما سعت أن تقلّد الأوروبيين في نمط العيش والفكر والهوى، وقفت على بوابة اوروبا لعقود، تشحذ خلالها الجنسية الاوروبية دون جدوى، وناورت كثيراً فيما تملك من ملفات جيوبوليتيكية واقتصادية، من الملف القبرصي الى ملف ناكورني كره باخ الارمنية والنفوذ على البحر الاسود الاستراتيجي وصولًا الى ملف العمالة التركية في اوروبا، كل ذلك لم يحقق لتركيا استكمال الحلم الاتاتوركي بـ"أورَبة" تركيا فكان الخيار أن تُيمم أنقرة وجهها شطر الجنوب. فكان فتح الدفاتر العتيقة ونبش القبور القديمة التي فاحت منها رائحة العثملة وزمان الوصل وكانت عودة الحلم بالخلافة... وكان أردوغان.

حزب العدالة والتنمية، هو الحزب الحاكم حاليًا في البلاد، وصل الحزب إلى الحكم في تركيا عام 2002. تم تشكيل الحزب من قبل النواب المنشقين من حزب الفضيلة الإسلامي الذي كان يرأسه نجم الدين أربكان والذي تم حله بقرار صدر من محكمة الدستور التركية في 22 حزيران 2001، وكانوا يمثلون جناح المجددين في حزب الفضيلة، شعارهم السياسي تصفير المشاكل.

الرئيس باراك اوباما رئيساً للولايات المتحدة الامريكية، دخل البيت الابيض في 20 كانون الثاني 2009، شعاره سحب الجنود الامريكيين من مستنقعات العالم والانتقال من الحرب المباشرة الى الحرب الناعمة أو ما صحّ تسميتها بالحرب من الخلف. بعد اقل من ثلاثة شهر على انتخابه، يقوم بزيارة الى تركيا في 542009 على غير عادة، فقد جرى العرف الامريكي بأن يزور الرئيس المنتخب في بداية عهده (شرق أوسطياً) السعودية أولًا ثم مصر ولاحقاً باقي الدول. وكان في ذلك دلالة كافية على برنامج اوباما حيال الشرق الاوسط والدور التركي فيه، وتجسد اكثر بتصريحاته خلال الزيارة حينها بأنّ الولايات المتحدة تعقد آمالًا كثيرة على دور تركي بارز في مساعدة أميركا فيما يتعلق ببرنامج واشنطن الجديد حيال الشرق الاوسط، مما أسّس لمرحلة فتور لاحقة في العلاقات السعودية الامريكية والتي لم تظهر كثيراً الى العلن، لتشعر معها المملكة بأنها الزوجة المخلصة والمخدوعة في آن، ثم أتت الإشارة الثانية بخطاب اوباما الشهير في القاهرة حين ألمح الى بدء مرحلة جديدة في المنطقة تحت شعار "الحرية للشعوب"، فكان أول الغيث في تونس ولا يزال الفيلم الامريكي الطويل يستمرُ فصولًا.

عطفاً على كل ما سبق، تعاظم الدور التركي عشية التحضير "لربيع العرب" وطفى الاخوان السياسي على السطح في كل من مصر وتونس وقطر ودغدغ حلم الخلافة مخيلة السلطان رجب، حتى وصل به الامر الى التحضير لاحتلال شمال سوريا والوصول الى قبر جده العثماني فدعم بكل الوسائل الحرب الكونية على سوريا، الى أن بدأ الحديث عن استحالة سقوط الاسد وضرورة البحث عن خيارات اخرى فوقف معترضاً ورفض المشاركة في التحالف لضرب داعش دون اثمان في مقابلها. والحقيقة هنا أنّ اردوغان، وكثمن لمغامرته الخطيرة، وقع بين مطرقة داعش التي ساعدها تمويلًا وتدريبًا ومعسكرات وسندان الاكراد، في امتحان هو الاصعب خلال مواجهة عين العرب، فإن ساند داعش يعني أنّ الدب التكفيري المتطرف أصبح في كرمه، سيّما وأنّ تركيا أصبحت بيئة حاضنة وقابلة لتفريخ هذا الفكر، وإن ساند الأكراد وسلّحهم فهذا سيعزز من القدرات العسكرية الكردية وسيعيد النشوة للمشروع التحرري الكردي كنتيجةٍ لأيّ انتصار في عين العرب مما يسرع الحلم التاريخي الكردي في قيامة دولتهم الخالصة. ولهذا السبب وقف اردوغان على مفترق قرار صعب، ولم يجد الى أن يشاكس الغرب قليلاً ويغازل الخصم الواقف في المقلب الآخر من بوابة الاقتصاد، فكانت زيارة بوتين التي اثمرت صفقات تقدر بـ30 مليار دولار تعزز خطة المواجهة الروسية للعقوبات وتعوض خسارة انخفاض الروبل وتؤمن للاقتصاد التركي غازاً بسعر مشجع (6% أقل من سعر السوق).

إذَا هي لعبة المصالح الكبرى التي أجبرت كل من اردوغان وبوتين أن يضعا ملف سوريا وأوكرانيا جانباً ويتفقا على الاقتصاد، ليبقى ملف شمال سوريا عالقاً أمريكيًا حتى يتضح الخيط الاسود في التغييرات الهيكلية التي تطال الجسم السياسي الامريكي حالياً، من الخيط الابيض المتعلق بالملف النووي الايراني وانعكاساته المباشرة على كافة قضايا المنطقة العالقة.

إنّ تركيا فشلت في جولة الهيمنة على القرار العربي بعد جلاء الغبار عن مؤامرة الربيع العربي بعد أن أصاب تركيا بالرمد الربيعي الذي يعمي الابصار، فتراجعت سعوديًا وتونسياً وليبيًا، اصطدمت مصرياً، وخسرت سورياً، أما غربياً، فهي ما زالت وستبقى خياراً أمريكيًا استراتيجياً يحقق لها مكاسب جمة على أكثر من صعيد، عسكري ومخابراتي وأمني، وهي ما زالت كمستورد كبير للغاز والنفط، محط انظار ومغازلة كافة الدول المنتجة للغاز والنفط وعلى رأسها روسيا وإيران وخصوصًا في ظلّ حرب الأسعار المحتدمة والتراجع المالي في العائدات مما يجعل اسلوب التعاطي معها يقاس بميزان الذهب.

أما بالنسبة للعقد التاريخية التي تأسر مخيلة السلطان رجب، فلقد أثبتت أحداث سوريا الأخيرة والقلائل الأمنية التي جرت في تركيا وآخرها التفجير الذي أودى بحياة أكثر من 52 شخصاً، أنّ انكشارية النصرة وداعش والجيش الحر فشلت في إعادة الامبراطورية العثمانية الى مجدها الغابر، وما كان يصلح قبل 500 عام لا يمكن تكراره اليوم، وأنّ اللعب على وتر الخلافة والتديّن والاسلام السياسي هو لعبٌ بنار تحرق موضعها، ولو تأخر الشعور بالاحتراق. فتركيا اليوم تنام على برميل بارود متفجر باحتوائها لأكثر من 28 فصيل متطرف يشكلون خلايا نائمة، ويعملون تحت شعار محاربة سوريا والجهاد في العراق، أولئك المتطرفون لن يبقوا هادئين اذا ما جاء القرار الفعلي الامريكي بإنهاء دور داعش، أضف اليهم الغليان الكردي المتعاظم كرهاً للسياسات الاردوغانية على مر السنوات الاربع.

إنّ تركيا قوية بمدى تفاعلها الاقتصادي مع محيطها والعالم، وضعيفة بمدى استعمالها لأدوات الشر لتحقيق الغايات والمطامع، لأنها أوهن من أن تلعب بالنار دون أن تحرق نفسها، فهل تستدرك قبل الحريق القادم اليها لا محالة، أم أنّ وراء المشروع الاردوغاني "دونمي" خفية؟؟؟