البضاعة الاستهلاكية المفسدة.. بقلم: د. عبد الرزاق المؤنس

البضاعة الاستهلاكية المفسدة.. بقلم: د. عبد الرزاق المؤنس

تحليل وآراء

الأربعاء، ٣ ديسمبر ٢٠١٤

في عصر الاحتلال المسموم اليوم الذي استوظف لمآربه وتشوهاته نفوسنا وعقولنا وأخلاقنا حتى ديننا لم تنتفض الأمة العربية والإسلامية لإنهاض لجان ومؤتمرات تبحث في تأصيل مكونات الوجود العربي والإسلامي، وفي تعزيز قيم هذه المكونات من جهة روابطها الإيمانية والقرآنية والتشريعية، ومن جهة هوياتها في المظاهر الاجتماعية والآثار التاريخية والأعراف العائلية وما يتصل بها من وشائج صلات الأرحام حتى تصل إلى شكلياتها الموافقة لقيمها تلك في شؤون البناء لحضارتها ولشعائرها في دور العبادة ودور العلم والتربية، وكذلك في أسواقها ومجامع اقتصادها وتجاراتها؛ فكل ذلك قد اكتسى على الطريقة الغربية أو الغربية عن معالمنا وعن تراثنا فشد معه صفة الغزو على الأخلاق وعلى الثقافات حتى على طرائق تناول الطعام ونوعية الطعام، وطريقة اصطفاف الصحون مع الملعقة والشوكة والسكين، وبات من التخلف وجهل (الإيتكيت) أن نثق بأعرافنا وأدبياتنا الإسلامية في سنن ذلك ولباقته، فقد اصطففنا كما تمليه علينا عادات الغرب والآخرين في زوايا حياتنا جميعها بدءاً من المنزل وانتهاء بتكوينات مجتمعاتنا وأوطاننا وسياساتنا دون أن نبني في أنفسنا وعقولنا وطرائق تفكيرنا طبيعة الانتقاء وحكمة الاختيار واصطفاء النافع الموافق وطرح الغريب الشاذ؛ ولم يعد يبقى من كرائم شيمنا ومناهج أعرافنا وأخلاقنا إلا اللمم من مفردات ومصطلحات وعنوانات وألقاب لا تشم منها أية رائحة في الغيرة على وجودنا وعلى مكونات مميزاتنا؛ فلننظر مثلاً إلى طرائق الملابس وخصوصاً لدى النساء والبنات ثم الشباب وإلى أسلوب قص الشعر واتخاذ الإكسسوارات الشاذة ولو كانت عند الآخرين شارات جماعات أو جمعيات شيطانية أو ماسونية أو إباحية، حتى لغة الفن في الغناء والتمثيل قد انتهكت في كثير من حرماتها وفي إتقان اللغة وفي مراقبة المعاني وفي مظان الإغراء والإغواء وتعاطي المخدرات والمسكرات أو في عدم المبالاة في اختلاط الأنساب، وظهرت على إثر ذلك أساليب غريبة في تذليل عقبات المخادنات المحرمة وفي تخريج المخطئ المتفحش من ورطتها أو ورطته دون الاكتراث بضمير أو مسؤولية أو مساءلة لنسمع من ثم فيها أو لدى فئة تتورم هذه الأيام بين أبنائنا وبناتنا لتجهر أو لتجأر بمقولة؛ هذه حرية شخصية، أو إنّ جسدي من حقي أو إني أريد أن أكتشف ما يعنيه مذاق التلامس الجسدي!..؛ لقد أفرز كل ذلك إنتاجاً خطيراً في أجيال أبنائنا وبناتنا قطعهم عن كرائم هذه الأمة وعن مكارم قيمها وعزتها وأخلاقها، وجعلهم أوعية مهيأة بحرارة لكل إملاء غريب في الخلق وفي التحول إلى قبلة الغرب والعالم الآخر، ومن ثم إلى سهولة الانزلاق إلى كل ما يعارض الوفاء للدين الحق أو يغار على مقامات رجالات هذه الأمة وعظمائها وعلى إنجازات علومها ورحمتها للإنسانية بل إلى عدم القناعة والتصديق والبحث في مخزونات هذه الأمة من طاقات عزتها وقدرات نهوضها وهوية استقلالها؛ فقد تحوّل كل ذلك على إثر ما سبق وبأيدينا وأصواتنا وتخطيطاتنا إلى ورقيات وبرامج عقيمة لن تستطيع دور تعليمها وجامعاتها أن تحيي فيها أية خلية من روح وجودها وكرامتها على أرض التفاعل والواقع، ومن ثم جُففت في أوراق ما يسمى إجازات أو شهادات تخريج أو ألقاب تفخيم لا روح لها في ورشات الإصلاح والهداية القلبية والتنوير الفكري الأصيل.
إنّ مثَل كل ذلك يتكوّر في مفهوم الجسم المريض والسرطان المستفحش الذي حوّل خلاياه إلى وظائفه وأساليبه ثم جاءت الضربة القاضية فأنهت وجود هذا الجسم وحياته..، ولن أقول من المسؤول عن كل هذا؟ بل أين مصداقية النهوض عند مَن وضعوا قبعات المسؤولية وتوصيفاتها في جميع الاختصاصات؟، وهل تكفي تغريدات الخطابات والندوات وصياحات التمجيد لمكونات هذه الأمة، أو الترحمات والترضيات أو الإطراءات الاحترامية لأسلافها وعلمائها وفاتحيها؟!
ليس المهم أن نسمع وننشد أو أن نطرب فنطبّل ونزمّر بل المهم أن نعمل وأن نفعل بصدق وجدية ما هو علمي وصحيح مما نقول؛ لأنّ القول وحده صناعة يتقنها التقي واللغوي!!.. فكل ذلك أضحى كالأرجوحة التي تهزها بحسرة هذه الأبيات:
فإذا نطقت القول لا معنى له        كنت البليغ تخاطب الأفهاما
وإذا عجزت عن الأصول وحكمها         لغة ونحواً لقبوك إماما
قل ما تشاء وكيف شئت محاذراً        في الشعر وزناً والمقال كلاما
إن البلاغة في الحديث جهالة        إن الحداثة تقتضي الإبهاما
لقد تعدى موضوع الغزو الأخلاقي والثقافي في أمتنا العربية والإسلامية دائرة الحوار الفاعل ليدخل دائرة المزايدة المشار إليها في السهام الموجهة إلى مقتلها في أصول تكوينها وفي أبنائها وبناتها، وبديهي أنّ هذا الغزو الذي احتل بيوتنا وقلوبنا وعقولنا وأخلاقنا وأعرافنا حتى ألسنتنا يحكي ضعفاً مشيناً، وإنّ الضعيف هو على الدوام أخصب سوق لهذه البضاعة الاستهلاكية المفسدة!..