دار خليل مردم بك وزوّارها.. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

دار خليل مردم بك وزوّارها.. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

تحليل وآراء

الجمعة، ٢٨ نوفمبر ٢٠١٤

مطالع سبعينيات القرن الماضي دخلت دار الشاعر الكبير خليل مردم بك مؤلف النشيد الوطني "حماة الديار" الذي يحفظه ويردده الصغار والكبار ذكوراً وإناثاً لبساطة كلماته وقوتها وجمال لحنه الذي أبدعه الفنانان اللبنانيان الأخوان فليفل. وكان مسبب الدخول إليها اللقاء بالشاعر المسرحي عدنان ابن الشاعر خليل تمهيداً للنظر في مسرحياته الشعرية إضافة إلى ديوانه الشعري في واحدة من الندوات التي كنت أقيمها جماهيرياً في مسرح القباني بدمشق لصالح الإذاعة السورية.
تقوم دار الشاعر خليل مردم بك في منتصف جادة فخر الدين الرازي التي تقع على بُعد يسيرٍ من الجهة الغربية للجامع الأموي؛ فأدهشتني هدستها وسعة أرجائها. تتوسط الدار بركة ماء كبيرة مبنية من المرمر الأحمر المعروف (بالمزي) وتتدفق منها مياه نهر (قنوات) ويقوم في الجهة الجنوبية من الدار إيوان واسع نُضدّت أرضه وحيطانه بالرخام الأبيض وقد زرعت أحواض الدار الفسيحة بأشجار الليمون والنارنج والكباد إضافة إلى أشجار مثمرة أخرى حتى غدت الفسحة قريبة الشبه ببستان صغير!
رصفت أرض قاعات الطابق الأرضي بالرخام، وزخرفت حيطانها وسقوفها بالألوان الزيتية الزاهية؛ وكان كل ما في الدار من أثاثٍ وزينة أصيلاً في لونه الدمشقي. في هذه الدار ولد خليل مردم سنة 1895 وكانت هذه كذلك مسرحاً لحوادث تاريخية وسياسية وأدبية هامة، فقد عقد فيها أول ندوة سياسية تقام في مدينة دمشق، وقد كان ذلك في العام 1913 غداة عودة الأستاذ عز الدين القنوفي من أوروبا حيث اجتمع في هذه الدار لتكريمه كبار رجال الفكر والسياسة الدماشقة وقد كان منهم الدكتور عبد الرحمن الشهبندر وهو سياسي معروف في زمنه وكاتب عالم وخطيب مفوه، وكان ممن دخل في جمعية الاتحاد والترقي وناضل طويلاً ضد الاستعمار وانتقل بالوفاة في دمشق إلى رحمة الله سنة 1940 إثر اغتياله بيد آثمة.
ثم الأستاذ شكري العسلي الذي كان من زعماء النهضة العربية الحديثة والذي نقم عليه غلاة الترك وأعدموه في دمشق سنة 1916. وأعدم التركُ معه كلاً من عبد الوهاب الإنكليزي ورشدي الشمعة وهما من أحرار النهضة العربية ومن حضور الندوة السياسية في دار خليل المار ذكرها؛ كما حضر تلك الندوة العلامة محمد كرد علي، الكاتب والمؤرخ ورئيس المجمع العلمي العربي وصاحب المؤلف الذي يحمل عنوان (خطوط الشام) والذي توفى في دمشق سنة 1953. ثم العلامة فارس الخوري وهو سياسي محنّك وعالم في اللغة والاجتماع والقانون، ومن أعضاء المجمع العلمي العربي ومن الأشخاص البارزين في الكتلة الوطنية، تولى رئاسة الوزراء السورية ورئاسة المجلس النيابي غير مرة. انتقل بالوفاة إلى رحمة ربه سنة 1962. ثم العلامة محسن الأمين أحد أبرز مجتهدي الشيعة الإمامية في بلاد الشام والباحث الثبت في عدد من الموضوعات. انتقل بالوفاة إلى رحمة الله سنة 1952 وشيّعته كل من بيروت ودمشق تشييعاً يليق بأمثاله. كما كان منهم الأساتذة فائز الخوري، وهو قانوني قدير وخطيب مفوّه ومن المساهمين في استقلال سورية، توفي سنة 1959. وأنيس سلوم وعبده كحيل وجورج حداد وسامي العظم... والأمير عارف الشهابي، وهو كاتب وخطيب، وكان من أعضاء الجمعية العربية الفتاة. نفّذّ به الترك حكم الإعدام سنة 1916. وغيرهم وغيرهم.. فقد كان عدد الحاضرين – كما يذكر المرحوم عدنان مردم- يزيد على مئة مستمع. وفي هذا الاجتماع تقرر وجوب جمع شمل العرب والمطالبة بحقوقهم كأمة لها كيانها التاريخي والواقعي، وكان أن انطلقت الشرارة الأولى السياسية من هذه الدار وتحرك الركب العربي الأول.
  انبثق من دوحة هذه الدار أيضاً الرابطة الأدبية ومجلة الثقافة الدمشقية التي كان من أعضائها الدكاترة: جميل صليبا وكامل عياد وكاظم الداغستاني. وكانت دار الخليل محجّة لرجال الفكر والأدب من سائر البلدان العربية والأوروبية، وما من أديب مرموق أو مستشرق كبير إلّا وزار الدار. وكانت الدار قد أنِسَت – في الأيام والعقود الخوالي- بدخول الرجال الأعلام إليها أمثال أمير الشعراء أحمد شوقي غداة زيارته دمشق سنة 1924 وخروجه منها بقصيدته الرائعة ((سلام من صبا بردى أرقُّ)) وشَدا بها الموسيقار محمد عبد الوهاب، وتشرّبها أبناء العروبة وقداً في الوريد حتى رحيل المستعمر ودحره خارج الوطن. الشاعران العراقيان الكبيران الزهاوي والرصافي والشعراء خليل مطران وبشارة الخوري وإيليا أبو ماضي والشيخ فؤاد الخطيب ومحمد الهراوي وأديب مظهر –مع حفظ الألقاب –وأحمد حسن الزيات وابراهيم عبد القادر المازني ومحمود تيمور وزكي مبارك وبهجة الأثري... وغيرهم.
ولأنّ الدار مضيافة كريمة فإنّ زائرين عديدين سينزلون بها وقد كان منهم الأستاذ أحمد بن الحسني الذي نزلها سنة 1914 وهو فقيه مرموق وله مؤلفات منها: "إعلام الباحث بقبح أم الخبائث" وله "البيان في أصل تكوين الإنسان". وكان منهم عبد القادر المغربي وأسرته سنة 1916 وحلمي العمر وهو من الأدباء العراقيين المرموقين. ثم الأميرة صالحة سنة 1932 وهي شقيقة الملك فيصل.
هذه الضغوط المتأتية من المناشط التي ذكرنا والإقامات التي كان بعضها يدوم طويلاً ألا يستوجب التساؤل: متى كان الخليل يكتب الشعر أو البحث أو الدراسة؟! الجواب المعلن أنّه كان يتم انطلاقاً من منتصف الليل، بيد أننا ندري أنّ هذا يمكن أن يتفق مع العطاء الشعري، أما البحوث والدراسات فالنهار بنوره وطوله أجدى لها وأجدر بها. ونسأل كذلك: كم كان – يرحمه الله – جلداً حتى استطاع العمل والنجاح في كل من حقلي السياسة والأدب! انحاز الخليل لشامه جرياً وراء دمشقيته في حبه العنيف لها وهو ابنها البار بها، وقد كان اللسان الناطق في نضال سورية القومي مع المستعمر أيام الانتداب، حتى إنه جعل من تحيته لدمشق بعد عودته إليها من نزوحه عنها بفعل الاستعمار موضوعاً لعرض المأساة الماضية مجدداً، وقد كانت تحيته بعنوان: "سلام على دمشق" نورد منها هذه الأبيات على سبيل الذكرى والتذكر لمن جايلها، وعلى سبيل المعرفة والتبصر لأجيالنا الشابة:
" تلاقوا بعد ما افترقوا طويلا     فما ملكوا المدامع أن تسيلا
بقيّة فتية لم تبق منهم         صُروف زمانهم إلا قليلا
فيالك موقفاً أورى وأروى      وشبّ لواعجاً وشفى غليلا
تراءت لي دمشق فقمت أرنو     فردّ رواؤها بصري كليلا
وشاعت نشوة لي من شذاها       كأني شارب صرفاً شَمولا
كأني حينما استوحيت شعري     عزمت على دموعي أن تقولا
أُوقفه على خفقان قلبي          وأُرسله هتافاً أو هديلا "
رحم الله خليل مردم فقد كان رجل دولة ورجلاً في وطن ورجل أدب ولغة وشعر واستقلال كذلك.