«الوطن العربي» يتلاشى: الطوائف والقبائل والعشائر تلتهم الدول!.. بقلم: طلال سلمان

«الوطن العربي» يتلاشى: الطوائف والقبائل والعشائر تلتهم الدول!.. بقلم: طلال سلمان

تحليل وآراء

الأربعاء، ٢٦ نوفمبر ٢٠١٤

دار التاريخ بالأمة العربية دورة كاملة، فإذا بشعوبها ــ مرة أخرى ــ قبائل وعشائر وطوائف ومذاهب وأعراق وعناصر مختلفة، تقف ببلادها على حافة الاقتتال الأهلي، وقد سقطت بعض دولها التي استُولدت قيصرياً لمصالح خارجية أو استنبتها النفط أو الغاز.
تهاوت أحلام الوحدة أو الاتحاد، وتفككت روابط المصالح المشتركة، واندثرت الجامعة العربية التي كانت وعداً بالتلاقي فتحولت إلى منصة لهجوم البعض على البعض الآخر، ونشأ نادي الأغنياء من العرب جامعاً منابع النفط والغاز (السعودية وأقطار الخليج) وصار مركز القرار.
غَيَّبَت سياسةُ التنازلات للعدو الإسرائيلي مصرَ عن موقعها القيادي لفترة طويلة بعدما كبلتها «المعاهدة» التي تلت «الزيارة» ثم الاتفاقات المتوالية التي تخطت السياسة إلى الاقتصاد بجوانبه كافة (البترول والغاز وشروط التصدير...).
ومع غياب مصر، الدولة المركزية الأقوى والأعظم تأثيراً في محيطها، سياسياً وثقافياً ودينياً وفنياً واجتماعياً، خلا المسرح أمام «الدول» التي اصطنعها النفط أو الغاز أو الغفلة الداخلية التي أدت إلى انفصال أقاليم واستقلالها، كدول جنوب السودان مثالاً، وكردستان العراق التي حولها ضعف المركز في بغداد إلى مشروع دولة مستقلة، مع تشجيع دولي معلن هدفه الأساسي إضعاف الدولة العراقية أكثر فأكثر، وليس التعاطف مع حق الشعب الكردي في دولة مستقلة له لم يطلبها لأن قادته يعرفون أنها غير قابلة للحياة منفصلة عن المركز، فكيف إذا كانت في حال خصومة معه.
أما في ليبيا فقد تحولت «الانتفاضة» إلى حرب أهلية مفتوحة أنهت «الدولة» في تلك البلاد واسعة المساحة والغنية بمواردها النفطية، وقسمتها إلى مشاريع دويلات مقتتلة تستدعي الخارج بالضرورة منعاً من تمدد النار إلى الجوار.
على أن كل ما تعرضت له الدول العربية ـ الأفريقية يبدو هيناً جداً بالقياس إلى ما تتعرض له دول المشرق عموماً وسوريا والعراق خصوصاً، ومعها بنسبة أو بأخرى اليمن، ثم الاردن، مع ملاحظة الهزات الارتدادية في لبنان وعليه.
إن دول المشرق هذه مهددة في وجودها ذاته وليس في أنظمتها السياسية فحسب. فسوريا تلتهمها حروب عدة باتت تتجاوز النظام إلى الكيان السياسي، أي الدولة ذاتها. وبالإضافة إلى تنظيمات المعارضة التي كانت سياسية فتحولت إلى منظمات عسكرية مختلفة المنشأ، متعددة مصادر التمويل، اقتحمت المسرح «داعش» ـ «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ـ فركزت على المحافظات الشرقية والشمالية الشرقية المحاذية لكل من العراق وتركيا، التي لا تخفي عداءها الشرس للنظام السوري وتجهر بالعمل لإسقاطه.
ولقد اقتحمت طوابير «داعش» بعض الشرق السوري وتمركزت، بداية، في مدينة الرقة، على الفرات، وهي المدينة التي أمر ببنائها الخليفة العباسي هارون الرشيد.. ويروى أن المسافة بينها وبين بغداد كانت «خضراء»! على أن انهماك الجيش السوري في مسلسل من المعارك لا تنتهي بامتداد الأرض السورية، تقريباً، في ما عدا منطقة الساحل (اللاذقية وبانياس وطرطوس) سمح لهذا التنظيم أن يتمدد في أكثر من اتجاه.
وإذا كان انشغال الجيش السوري في الحرب على سوريا وفيها قد وفر لـ»داعش» فرصة التمدد في المناطق البعيدة عن المركز (دمشق بين سبعمئة وتسعمئة كلم)، فإن سهولة اجتياح هذا التنظيم الآتي من الجاهلية مدينة الموصل ذات المليوني مواطن، والعاصمة الثانية للعراق، والتي كان فيها أكثر من خمسين ألف جندي معززين بالمدرعات والمدفعية (والطيران؟) أمر يثير الريبة ويطرح أسئلة جدية بينها: لماذا انسحبت هذه الفرق بغير قتال، تاركة أسلحتها وذخائرها لـ»داعش»، ومن والاه أو حالفه في الموصل من البعثيين القدامى (الذين استبعدهم النظام بذريعة انهم أنصار صدام حسين) والجماعات النقشبندية خاصة والإسلامية عموماً؟! لقد خلع الضباط والجنود ملابسهم الأميرية وانهزموا، تاركين في الثكنات ما يسلح جيشاً كاملاً ليغنمها «داعش» بغير قتال.
يمكن أن تذكر بين الأسباب العلة الطائفية أو المذهبية، وكذلك عدم الولاء للنظام، وعدم الاقتناع بالمهمة. كما يمكن أن يشار إلى أن العديد من القيادات (والجنود) كان يستشعر شيئاً من «الغربة»، وأنه غير مرغوب فيه، ولذا انسحب بلا قتال امام مجموعات من المقاتلين لا يتجاوز عديدها بضع مئات، ثم سرعان ما انضم إليهم الباقون من أهل السنة الذين لا يثقون بالجيش المتهم بأنه طائفي (شيعي) وأنه خاضع للنفوذ الإيراني.
يقال إن «داعش» انتصر بفضل ضعف المواجهة في الدولتين اللتين هاجمهما وتمركز في بعض أنحائهما، قبل ان يتنبه «العالم» إلى خطورة هذا «التنظيم الجاهلي» بالشعار الإسلامي وسكاكين الذبح العلني امام الكاميرات لإرهاب القوى التي قد تواجهه.
ويقال إن في طليعة أسباب الانهيار تهافت حكومة نوري المالكي في العراق، تحت أثقال الاتهامات بالتعصب الطائفي والفساد المالي وسوء اختيار الوزراء والمديرين، إضافة إلى الحصار الذي ضربته عليه دول الخليج عموماً بذريعة انه حوَّل العراق إلى «محمية إيرانية»، برغم استقباله في البيت الأبيض في واشنطن، وتوافد الموفدين الأميركيين المتواصل على بغداد. وبالتأكيد، فإن هذا الوضع السياسي قد انعكس مباشرة على الجيش فضعفت روحه المعنوية، وطاردته الاتهامات في وطنيته، وأعطيت الميليشيات الطائفية مساحة مهمة من دوره على حسابه كمؤسسة عسكرية ولاؤها أولاً وأخيراً للوطن.
لنتجاوز الخليج، بمملكته المذهبة وإماراته هائلة الغنى، والتي تعيش في الوقت الحاضر حالة من الخوف المعلن. فليس سراً ان هذه الدول قد استخدمت بعض ذهبها في تجميع معارضي بعض الأنظمة العربية التي صنفتها معادية وفي الطليعة منها النظام السوري، ثم إنها أمدت هذه المجموعات بالسلاح فضلاً عن المال، وشاركت ـ بهذه النسبة أو تلك ـ مع الحكم التركي في تأمين المأوى ومعسكرات التدريب لها والخطط العسكرية.
ومعروف ان السوريين لم ينسوا أن الاستعمار الفرنسي قد تبرع بما لا يملك، فمنح قضاءي كيليكيا واسكندرون السوريين إلى تركيا لكي تتخذ موقفاً متعاطفاً مع التحالف الغربي الذي واجه جيوش هتلر في الحرب العالمية الثانية.
ونصل إلى اليمن التي حكمها علي عبد الله صالح ثلث قرن (من اصل عمرها كجمهورية وهو حوالي نصف قرن)، بالارتكاز إلى قدرته على تحريك القبائل واستمالتها بمواقع في السلطة وبالمنح المالية والامتيازات، وكذلك فعل مع جماعة «الإخوان المسلمين» وهو قد حاول استيعاب «الجنوبيين» الذين نجحوا ـ ذات يوم ـ في إقامة دولة لهم في جنوب اليمن بعد تحريرها بإخراج الاحتلال البريطاني وإسقاط السلطنات والمشيخات التي كانت كيانات كرتونية. ولقد عقد مع الجنوبيين اتفاقات عديدة، بهدف توحيد اليمنيْن، ثم استعان بالخلافات في ما بين أهل النظام في عدن وانحياز الوحدويين منهم إلى الدولة الواحدة، فخاض حرباً لتوحيد «مملكة سبأ».
لكن هذه الوحدة لا تزال مهددة، فالجنوبيون يعتبرون انهم قد فقدوا «دولتهم» من دون ان ينالوا حقهم في «دولة الوحدة» والشماليون يبحثون عن الدولة والوحدة معاً.
وها هي اليمن الآن تشهد صراعاً يهدد الدولة بالتفكك، خصوصاً أن بعض «الجيران» «يفضل» ألا تقوم إلى جانبه دولة قوية تملك قدرات لا بأس بها فضلاً عن موقعها الذي يجعلها قادرة على التحكم بباب المندب، بوابة البحر الأحمر، بكل ما يعنيه ذلك لدول الجوار وبالذات لمصر، وقناة السويس فيها، باعتبارها المعبر بين البحرَين الأحمر والمتوسط، والرابط ـ الفاصل بين قارتين، ومصدر الدخل المهم بالنسبة إليها، فضلاً عن أهميتها الإستراتيجية.
في هذا السياق، ومن ضمن الصراعات المحتدمة بين القوى المختلفة في هذه المنطقة من العالم، يسهل اتهام إيران بأنها هي من يشجع «الجنوبيين» على الانفصال، وهي التي تقف وراء الحوثيين وتدعمهم بالمال والسلاح.
وفي كل الحالات، فإن اليمن تواجه الآن خطر التقسيم، أما مخاطر الفقر وافتقاد الدولة القادرة والمجسدة لوحدة الشعب فهي قائمة دائمة، ولعل بعض الاضطراب مصنَّع ومقصود لتفتيت هذه الدولة التي اصطنعتها الثورة ضد نظام الإمامة المن خارج التاريخ، والتي كان لمصر فضل عظيم في حماية ثورتها ومن ثم جمهوريتها في بداية الستينيات.
لقد دار التاريخ بالعرب دورة كاملة.. وها هي «الدول» التي ارتضتها شعوبها برغم أنها نتيجة التقسيم الذي فرضه الاستعمار على منطقة المشرق العربي خصوصاً، تتصدع منذرة بالسقوط لتستنبت كيانات سياسية جديدة ضعيفة وهشة وبلا قضية.
..علماً أن إسرائيل دولة مستنبتة على أرض ليست لها. ولكن العالم كله تجند لزرعها على حساب فلسطين وفي قلبها، وها هي تعلن نفسها الآن «دولة يهود العالم» فلا تجد من يردعها.