على سبيل التظاهر بالعلمانية والحداثة.. الســــلفويون الليبراليــــون يتوضؤون بالكـاز العــــــربي.. بقلم: حسان المنيـّر

على سبيل التظاهر بالعلمانية والحداثة.. الســــلفويون الليبراليــــون يتوضؤون بالكـاز العــــــربي.. بقلم: حسان المنيـّر

تحليل وآراء

الاثنين، ٢٤ نوفمبر ٢٠١٤

مع أنّ العلمانية في نسختها المنقحة الأخيرة تطرح نفسها كحل رئيس لضمان قيام نهج ليبرالي وطني، إلا أنّ الإدارة الأميركية تتجه منذ العام 2011 إلى تدجين الليبراليين العرب وحشرهم في بيت الطاعة التركي، حيث العلمانية والليبرالية في تركيا مصممتان لضمان قيام رأسمالية متوحشة, وهذا يتطلب بالتالي (لبرلة) الحركات الإسلامية الأصولية والسلفية وتدجينها بعد تقديم تنازلات شكلية.
ومع أنّ التيارات العلمانية الحديثة في سورية لم تطرح نفسها بديلاً عن القيم الروحية، بل على العكس طرحت حفاظاً على هذه القيم، مقابل إبعاد الدين عن السلطة والسياسة، فإنّ الليبراليين العرب دأبوا في الآونة الأخيرة على تصوير العلمانية كرديف للإلحاد، بل مورست ضدها حرب على نمط المكارثية الأميركية في خمسينات القرن الماضي.
ويجب أن نعترف مسبقاً بأنّ الليبرالية في العالم العربي ظاهرة قديمة, وليس صحيحاً أنها سمة من سمات الصعود الثاني للحقبة السعودية التي تلت انهيار الاتحاد السوفييتي، فالظهور الأول لليبرالية العربية كان في إثر انهيار الإمبراطورية العثمانية, وكانت مجرد أفكار عفوية متأثرة بكتابات استشراقية غربية. وقد تبنى الجيل الأول من الليبراليين العرب, وبتقليد أعمى, معظم الأفكار الغربية السائدة حول العرب والإسلام، وأرادوا من ذلك تقليد نموذج الحكم اليميني الغربي.
ويمكن اعتبار كتاب طه حسين "مستقبل الثقافة في مصر" الصادر عام 1938 الدليل الفكري الموجه لليبرالية العربية، وهي تستند إلى رفض النموذج الملطف للرأسمالية الغربية، والأخذ بنموذج الرأسمالية المتوحشة، والمنفلتة من أي ضابط، والتي مثلها خير تمثيل في لبنان الحديث – وعلى سبيل المثال لا الحصر - رفيق الحريري، وفؤاد السنيورة من بعده، وكذلك عدد من الذين استثمروا علاقاتهم مع السلطة في سورية، ونجيب سويروس في مصر. فطه حسين مثلاً رفض أن يشمل دور الدولة توفير قوت الشعب، الأمر الذي كان مصدر فخر للدولة الفرنسية بعد الثورة، فقد اعتبر طه حسين ذلك أمراً معادياً للديمقراطية, وهذا يؤكد أن الليبرالية العربية، في طورها الأول، كانت أكثر يمينية وتطرفاً في نسقها المستورد، فآدم سميث، منظّر الرأسمالية أجاز في كتابه "ثروة الأمم" أن تؤدي الدولة دوراً في الاقتصاد في ميدانين اثنين هما: توفير التعليم الرسمي المجاني، وتوزيع القوت على الناس لمنع قيام أية مجاعة، لكن الأمر مختلف بالنسبة للمحافظين العرب الجدد الذين يحرصون بدلاً من توفير القوت على الاندفاع لتحرير الرغيف، تماماً كما عمل البعض في سورية من دون عمق المعرفة على تحرير الجولان والإسكندرون وانطاكية وكيليكية بالشعارات وحدها.
لقد كان طه حسين واضحاً فاضحاً في مصطلحاته, فاستخدم مصطلح "العقل المصري" قبل عشرات السنين من صدور كتاب "العقل العربي" لرفائيل بتاي، هذا الكتاب الذي أصبح إنجيل المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، كما ذكر سيمور هيرش في أشهر مقالاته بمجلة "نيويوركر".
الواقع أنّ طه حسين لم يكن راضياً عن الاستعمار!! لأنه لم يدمج الدول التي استعمرها كفاية في حضارة الغرب، فهو يذكر في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" ما يلي:
"نريد أن نتصل بأوروبا اتصالاً يزداد قوة من يوم إلى يوم، حتى نصبح جزءاً منها لفظاً ومعنى، وحقيقة وشكلاً" (ص 34).
وهناك العشرات من المثقفين، وغالبيتهم من السوريين واللبنانيين، يطرحون الفكر نفسه في أيامنا هذه... لكن حظوظ الليبرالية في بيئتنا تعثرت وارتبكت، فهي تتساهل في المسألة الوطنية (حتى بالنسبة لقضايا التحرير) وارتبطت ارتباطاً قوياً بالغرب الأميركي والأوروبي، ونزعت نحو رأسمالية غير مقيدة، الأمر الذي أبعدها عن هموم معظم الناس. أما في اليمين العربي نفسه فلم تكن الحركات الإسلامية المتشددة والمدعومة من سلاطين ومشايخ النفط العربي، في مرحلة ما أسماه مالكولم كير بـ"الحرب العربية الباردة" لتسمح بإزعاج الركن السلفوي, طالما أن السلفويين باتوا يتوضؤون بالكاز العربي، ويغتسلون غسلهم الأكبر بالبنزين، ويتيممون بالتراب الممتزج بالمازوت.
والطور الثاني لليبرالية في منطقتنا ظهر بعد حرب العراق 1991، عندما بدأ الحكم السعودي والقطري بالاستيلاء على كل وسائل الإعلام العربي. لكن ما جاءنا من ليبرالية في هذا الطور اختلف تماماً عن المفهوم الكلاسيكي لليبرالية وبالتالي عن المفهوم المستحدث الذي اقتضته أزمة الرأسمالية الحادة في وقتنا الراهن.
وأجهزة الدعاية السعودية الهائلة, التي تسيطر على غالبية وسائل الإعلام ودور النشر ومراكز الأبحاث في العالم العربي, استعانت كعادتها بمجموعة من اللبنانيين وبعض السوريين المتلونين لطول باع هؤلاء في الانتقال من الناصرية إلى الحقبة السعودية، ثم إلى الصدامية فالعودة غير المجيدة إلى الوهابية المتصالحة مع الليبرالية العربية، وذلك لبثّ فكر جهادي أردفته بالمقاتلين والمال والعتاد، مما أنتج فكراً لقاعدة جديدة يتزعمها بندر بن سلطان. وسعود الفيصل.. وغيرهم، والتحق بهؤلاء عدد من المحافظين العرب الجدد، جاؤوا من خلفيات بن لادنية، من أمثال تركي الدخيل وجمال الخاشقجي وآخرين، كما انتقل شيوعيون لبنانيون الى الحريرية، ومعهم عدد من الكتاب السوريين أمثال ميشيل كيلو وفايز سارة وعارف دليلة وجورج صبرا.
والعائلة السعودية الحاكمة تستطيع أن تموّل الفكر اليميني الليبرالي في الوقت نفسه الذي تموّل فيه الفكر الديني الأصولي المتشدد، بل ذهبت إلى استيعاب ماركسيين حتى بتنا أمام "شيوعية وهابية، فالمال السعودي وثقافة آل سعود يجمعان بين ثقافة نانسي عجرم وشيرين عبد الوهاب وأصالة نصري، وبين ثقافة فقهاء الوهابية وشيوخها، كما يجمع فريق 14 آذار في لبنان بين ثقافة الأسير وفضل شاكر.