لمــاذا نجحــت داعــش حيــث فشــل الجميــع؟..بقلم: أحمد الشرقاوي

لمــاذا نجحــت داعــش حيــث فشــل الجميــع؟..بقلم: أحمد الشرقاوي

تحليل وآراء

السبت، ٢٢ نوفمبر ٢٠١٤

يبدو أن السؤال الجوهري الذي أصبح يطرح اليوم على الجميع هو: ما سر نجاح داعش في إستقطاب شريحة واسعة من شباب الأمة فيما فشل المشروع القومي العربي الرسمي ومشروع الإسلام السياسي النخبوي في ذلك؟..
ألم يأخذ هؤلاء فرصتهم كاملة غير منقوصة طوال عقود طويلة، وفرضوا خلالها وصايتهم على قيم الحرية والعدالة بل والحقيقة أيضا، حين قدموا أنفسهم على أنهم المخلصون الذين يمثلون ضمير الأمة وعقلها الجمعي وصفوة مفكريها، وأنهم وحدهم من يمتلكون مشروع الخلاص ومفاتيح التحرير والنهوض والتقدم؟..
من عاد يصدق اليوم هؤلاء الحكام والنخبويون في عصر العولة وثورة المعرفة وتدفق المعلومات السيالة عبر الوسائط على مدار الساعة، بعد أن تجاوزتهم الأحداث وتبين عقم تفكيرهم وزيف شعاراتهم وعجزهم عن تقديم أجوبة مقنعة للناس؟..
صحيح أن مقاربة الموضوع من وجهة نظر موضوعية يتطلب دراسة إجتماعية علمية لم يقم بها الأكادميون العرب ولا مراكز دراساتهم حتى الآن، وحدها المخابرات الغربية والعربية من تمتلك أجوبة دقيقة حول هذه الظاهرة الجديدة التي فاجأت الجميع، والمستقات من ملفات التحقيقات المتقدمة التي تمت مع عديد المعتقلين، لكنها تتمنع عن كشف فحواها للإعلام لأسباب سياسية تدينها وتشهد بفشلها وتحملها مسؤولية الكوارث التي حلت بالأمة.
وعليه، سيكون من العبث الإختباء وراء موقف “الضحية” كما يفعل العرب عادة مفضلين إتهام الآخر بالمسؤولية عما يصيب الشعوب والأوطان من خراب بدل مراجعة الذات ومعالجة الأسباب، لأن تعليق الفشل على شماعة الآخرين لا ينهي المشكلة ولا يغير من الواقع شيئا، ولا يضمن للأنظمة والشعوب أمنا ولا إستقرارا، ما دام الوقت قد فات وسايكس بيكو كما نعرفها لم تعد قائمة بعد أن أصبحت بفضل “داعش” رسومات عبثية على خرائط بالية.
ثم نسمع من يخرج علينا اليوم من برجه العاجي بعد سبات طويل ليبشرنا أن الحل لا يكون إلا بـ”الوحدة العربية” لأنها المضلة الكفيلة بجمع لحمة الأمة.. لكن، الذي يتابع ما يجرى في هذا الوطن المسمى مجازا بـ “العالم العربي” الممتد من المحيط إلى الخليج، يتسائل بإستغراب: – ما الذي يجعل الهوية العربية التي يؤمن بها القوميون العرب كحل لحالة التخلف والاحتلال والقمع التي يعيشها المواطن “العربي” في جميع الأقطار.. فكرة جاذبة للعربي والأمازيغي والقبطي والكردي والدرزي والشركسي والتركماني وغيرهم من المكونات غير العربية التي تؤثت جغرافية تخلفنا؟.. لا جواب مقنع، لأنه لا يوجد جواب أصلا في عصر إنفجرت فيه الهويات وسقطت كل الشعارات التقدمية وانكسر كل الأقفال الأصولية.
حتى الإسلامويين الذين كانوا يرفعون شعار الوحدة الإسلامية إنطلاقا من أننا أمة تعبد الله الواحد الأحد، وتتبع سنة نبيه المصطفة (ص)، وتقرأ في نفس الكتاب الذي هو القرآن، وتصلي اتجاه نفس القبلة التي هي الكعبة، وتحلل ما أحل الله وتحرم ما حرم، تبين أنها أخطر على الأمة ووحدتها ووجودها ومصيرها من الصهاينة الأنجاس، حين بدلت دينها وباعت ضميرها وتحولت إلى منظمات عميلة تستغل الدين في السياسة بهدف الوصول إلى السلطة، وأصبح لدينا أكثر من إسلام يحارب بعضه بعضا، وكل يدعي إمتلاك الحقيقة وما سواه على ضلال.
اليوم هناك معادلة بسيطة يفهمها الشباب وتلخص سر التغيير الكبير الذي نراه يحصل أمام أعيننا من دون القدرة على تداركه لإقاف خطره والتعامل مع تداعياته قبل فوات الأوان، هذا إذا كان الأوان فعلا لم يفت بعد.. وهو أن شعارات التغيير سقطت جميعها في مجارير التاريخ، والواقع الحالي يقول أن من يصنع التغيير الحقيقي على الأرض هي “داعش” وأخواتها، وأن لا وجود لمشروع بديل مقنع وجذاب يمكن أن يلتف حوله الناس لتغيير البوصلة..
حتى فلسطين التي كان يفترض، أو هكذا كنا نعتقد، أنها القضية الجامعة للأمة لم تعد سوى “شعار” في منطق الأنظمة والنخب، وأصبح المواطنون في الغرب يتظاهرون نصرة لغزة في غياب الشارع العربي الذي أدرك أن الحق لا يعود بقصائد الشعر والتظاهر في الشوارع.. إنه حقا عصر “داعش” بامتياز.
ما من شك أن “داعش” وأخواتها ليست ظاهرة عفوية إنفجرت بتلقائية، بل هي مؤامرة خطط لها بشكل مدروس من قبل قوى دولية وأدوات إقليمية معروفة، ساعدتها على التمدد والتمكن بالمال والسلاح والإعلام، سعيا لتحقيق أهداف خبيثة تصب في مصلحة أمريكا وإسرائيل بالدرجة الأولى.. أو هكذا اعتقدوا في البداية قبل أن تنقلب “داعش” على الجميع وتتعامل مع الجميع بميكيافيلية فاقت قدرة الأنظمة على المناورة. فـ”داعش” تتعامل مع تركيا ليس لأنها تابعة لها، بل في إطار تبادل المصالح والمنافع في ظل صراعها مع السعودية على النفوذ، وتتعامل مع السعودية التي تدفع لها مبالغ طائلة كي لا تغزوها، ومع قطر التي تدفع لها مقابل تنفيذ أجندات معينة في سورية ولبنان، ويتعامل معها الأردن من تحت الطاولة كي لا تهدد النظام وتحول الأردن إلى ولاية تابعة لدولتها..
حتى النظام السوري الذي ابتلي بشرها فهم أبعاد اللعبة واستغلها في تصفية بقية الفصائل مقابل إستغلالها لآبار نفط الشمال وفق تقارير موثقة، ما مكنه من التفرغ لتطهير سورية من بقية الجماعات التي كانت تنتشر كالفطر على إمتداد جغرافية الوطن بالحسم حينا والمصالحات أحيانا، إلى أن تحين لحظة المواجهة الكبرى مع “داعش” والتي يبدو أنها إقتربت اليوم أكثر من أي وقت مضى.. والحرب خدعة كما يقول الرسول الأعظم (ص)، وهذا ما أفشل مشروع إسقاط سورية في بضع شهور كما كانوا يعتقدون.
إنه منطق المرتزقة بامتياز تستغل به “داعش” ضعف العرب، ومقابل ذلك انسحبت السعودية والإمارات من المشاركة في القصف الجوي ضددها بحجة أن محاربتها تخدم النظام السوري، في حين أن الخوف منها هو من دفعها لعدم محاربتها، بل حتى العشائر في السعودية هددوا المملكة وحذروها من مغبة محاربة “داعش” فامتثلت، وهي التي تعرف أن 94% من المجتمع السعودي القبائلي والعشائري الوهابي المتخلف يدعم “داعش” ويعتبرها إمتدادا لإسلام محمد بن عبد الوهاب “الصحيح” الذي يؤمنون به..
حتى أمريكا تتعامل مع “داعش” بحذر شديد فلا تستهدف سوى بعض من مواقعها وزبالة جندها من باب رفع العتب، وإلا كيف يمكن تفسير عجز ما يسمى بالتحالف الدولي من 50 دولة عن تحرير مدينة صغيرة كعين العرب (كوباني) برغم القصف الذي استمر لأكثر من شهرين حتى الآن، وتبين أن الطائرات الأمريكية تزودها بالسلاح والغذاء من الجو في سورية والعراق أيضا، وفق تصريح رسمي للحكومة العراقية؟
“جبهة النصرة” إستفادت من تجربة “داعش” وأصبحت تبتز “إسرائيل” والسعودية وأمريكا، والجمعة بعثت برسالة علنية تشكر فيها السعودية على دعمها لها، وتعاتب أمريكا على ضعف الدعم الذي تقدمه لها بعد أن لم توفي بما وعدتها به من أنها ستعومها لتتحول إلى معارضة معتدلة ضد النظام السوري..
بل أخطر من ذلك، فأمريكا لم تدرج زعيمها الجولاني على قائمة الإرهاب السوداء، لأن القاعدة هددت واشنطن بوضعها على قائمة جهنم الحمراء إن هي فعلت، وكلنا يعرف إرتباط “جبهة النصرة” الإرهابية بإسرائيل إرتباطا يكاد يكون عضويا، فكيف ستحاربها وهي التي تواجه أعدائها في سورية ولبنان وتوفر لها المال والسلاح والغطاء العسكري والمعلومات الإستخباراتية والغذاء والعلاج في مستشفياتها، وتحضى برعاية مسؤوليها الكبار بمن فيهم “النتن ياهو”؟..
وفي المقابل، تابعنا باستغراب كيف أن مملكة الشر والإرهاب والظلام طالبت الخميس من الأمم المتحدة وضع حزب الله المقاوم الشريف الذي يحارب الإرهاب على قائمة الإرهاب، ولو كان الحزب يهدد السعودية بالإرهاب لما تجرأ ممثلها في نيويورك على فعل ذلك، ولخصصت الرياض للحزب ميزانية بملايين الدولارات سنويا كي لا يمس أمنها، وهذا هو منطق الصهاينة العرب الجبناء، يعتقدون أنهم يستطيعون شراء كل شيىء بالمال، بما في ذلك فرنسا لعرقلة الإتفاق النووي مع إيران، وإلا، فـ”السعودية” أعلنت باريس علنا وجهارا نهارا أنها ستلغي كل عقود السلاح بمليارات الدولارات معها إن هي لم تعرقل الإتفاق الذي يبدو أنه دخل اليوم في مرحلة الإحتضار في إنتظار ما ستسفر عنه مفاوضات الإنعاش في الربع ساعة الأخيرة السبت والأحد.
وإذا كان ما يجري اليوم على المكشوف ليس مؤامرة كما يزعم إعلام الزيت، فكيف تكون المؤامرة إذن؟.. لكن، حتى لو كنا نؤمن أن في الأمر مؤامرة، وهذا صحيح لا يمكن أن ينكره إلا مكابر، فإنه علينا أن نسأل أنفسنا بشجاعة عن السر وراء نجاح مثل هكذا مؤامرة؟
ذلك، أنه إذا كنا كمجتمعات عربية بهذه الهشاشة، فهناك حتما جهة منا تتحمل المسؤولية، لأنها لم تكن تمتلك رؤية وإرادة وشجاعة لبناء مجتمعات قوية متجانسة ومنتجة غير قابلة للإختراق، لأن من يؤمن بقيم ويحضى بحياة كريمة في وطنه يستحيل أن يخترق من قبل عدو خارجي مهما كانت الإغراءات، وحتى إذا تم الإختراق فلن يكون له حظا من النجاح بحكم تماسك الأغلبية..
ولفهم الموضوع من وجهة نظر المعادلة القرآنية، يكفي أن نعرف أن الشيطان يخترق الإنسان من بوابة ضعف وهشاشة النفس، وأن الإنسان الذي يجاهد نفسه يتحول إلى مؤمن قوي لا يقترب منه الشيطان لأنه يستحيل عليه النفاذ إلى عقله وقلبه من مدخل ضعفه، وهكذا أيضا هو حال الدول والمجتمعات.. وليس عبثا أن يوصي الله تعالى عباده بجهاد النفس أولا لهزيمة الشيطان من دون حرب، قبل جهاد المنافقين الذين يمثلون الطابور الخامس الذي ينفذ من خلاله العدو إلى داخل الدار، ومن ثم جهاد العدو الخارجي الذي يتربص بالأمة الدوائر في كل وقت وحين..
وهذا ما فهمه المسلمون الأوائل وطبقوه بفعالية، فنجحوا في بناء إمبراطورية عظمى وأسسوا حضارة فدخلوا التاريخ من أوسع أبوابه.. وهو ما تطبقه إيران اليوم باتقان، حيث وصلت مستوى من التقدم العلمي والتكنولوجي والقوة العسكرية أرعب الغرب وأعاد إلى مخيلته ذاكرة الإسلام الأول الذي لايقهر، لأنها ببساطة كانت تمتلك رؤية واضحة إشتغلت عليها بصبر وتفاني وتضحية، رغم الحرب المدمرة ورغم سنوات الحصار الخانق، فنجحت في حين فشل العرب الذين لم تكن لهم يوما رؤية ولا دور ولا مشروع يقدمونه لإنقاذ أوطانهم وشعوبهم المقهورة.
لكن في حالتنا، لا يمكن تطبيق هذه المعادلة القرآنية لسبب بسيط، وهو أن المواطن االعربي الجائع الضائع الذي فقد الأمل في الخلاص لن تستطيع إقناعه بأن علاجه سيجده في شعار “الإسلام هو الحل”، إلا إذا قدمت له إسلاما برؤية ثورية تضمن له الغنيمة في الدنيا والخلاص في الآخرة.. هنا سيكون مستعدا ليفعل ما تطلب منه حتى لو كان عملا وحشيا من خارج القيم الدينية والإنسانية، لأنه يعتبر نفسه مظلوما لا يستطيع الحصول على حقوقه إلا بالعنف، إمانا منه بمقولة “قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق”.. والتاريخ الإسلامي يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن السر وراء نجاح الفتوحات زمن الخلافة يكمن في “الغنيمة”..
ومن له شك في ذلك فليعد قراءة التاريخ بعقله لا بقلبه، ليغير كثيرا من فهمه.. وسيكتشف أن مقاومة الإحتلال وحدها من كانت ولا تزال تقاتل بمحرك “العقيدة” لا حافز “الغنيمة”.
والمتابع لمواقع التواصل الإجتماعي والتقارير الإعلامية الشحيحة التي تكتب حول دولة “داعش” اليوم، لا يسعه إلا القول، أن خلاصة القضية تكمن في كلمة سحرية لطالما حلم بها الشباب العربي وانتظرها طويلا دون أن تتجسد واقعا على الأرض، برغم عقود من الوعود والعهود والمشاريع الطوباوية الفاشلة.. ونقصد بذلك “التغيير”. هذا هو السر، وهذه هي الكلمة المفتاح لفهم ما يجري اليوم في منطقتنا.
ولا يختلف إثنان ولا يتناطح عنزان حول الحالة الكارثية التي وصل إليها العالم العربي من فشل على كل المستويات، السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية وما إلى ذلك، فقد إشبعت الظاهرة بحثا وحددت الأسباب والمسببات، وهناك إجماع على أن المسؤولية في ذلك تتحملها الأنظمة العربية بالدرجة الأولى، والنخب السياسية والثقافية (علمانية وإسلاموية) على حد سواء بالدرجة الثانية، بعد أن أثبتت عقود ما بعد التحرير وقيام الدولة الوطنية أن كل ما روج له هؤلاء جميعا لا يعدو أن يكون شعارات طوباوية لا تعني ما تقول، لأنها ببساطة لا تضمن حرية ولا تؤمن مشاركة سياسية ولا توفر عدالة إجتماعية..
أو بالمختصر المفيد، كل الشعارات التي رفعت حتى الآن لم تحقق للناس كرامة في الدنيا ولا خلاص في الآخرة، هذا علما أن العيش في جنة الدنيا مقدم على العيش في جنة الآخرة ما دامت مهمة الإنسان في الأرض هي العمار.. هذا ما فهمه المسلمون الأوائل الذين أسسوا جنة الأندلس على شاكلة التصور الذي كان لديهم لجنة الآخرة فدخلوا عصر الحضارة.. والجائع العاطل الضائع لا يمكنه أن يفهم هذا الدين الذي يقول له بأن الخروج على ولي الأمر الفاسد الفاسق العميل يعتبر كفرا؟.. وهل هناك كفر أكبر من تنازل الإنسان الذي كرمه الله وخلقه حرا عن حريته وكرامته ليتحول إلى نعجة جائعة ومريضة قدرها أن تقبل بالذل والإهانة العظيمة، وتتألم بصمت وصبر في إنتظار أن يرحمها الله بالموت أو التخلف العقلي في مزرعة الراعي؟..
التشخيص العام للوضع العربي يقول، أن نصف العرب يعيشون تحت خط الفقر، وأن البطالة بلغت أرقاما قياسية، والفساد الإداري أصبح عرفا حين ضاع الحق وتحول الحصول عليه إلى فرصة يجب إقتناصها بكل السبل والوسائل من الإبتسامة للموظف الصغير إلى رشوة المسؤول الحقير، وبرزت ظواهر إجتماعية جديدة وغريبة بشكل لافت كالعزوف عن الزواج لدى الشباب، وإرتفاع سن العنوسة لدى الإناث ما أدى إلى إنتشار البغاء، وإرتفاع نسبة المتعاطين للمخدرات، وتفشي مظاهر الإنحلال وضياع الأخلاق والإحترام، وإقدام الشباب الجامعي اليائس على خوض مغامرة قوارب الموت للهجرة بحثا عن أسباب الرزق والعيش الكريم، وظاهرة الإنتحار، وتنامي أحزمة الفقر في محيط المدن الكبيرة بسبب الهجرة الداخلية من القرية إلى المدينة، ما زاد في الطين بلة فانعدم الأمن وأصبحت الجريمة تأخذ من جهد الإعلام حيزا يزداد كل يوم..
ولا نتحدث عن المغرب الذي حوله “أمير المنافقين” الشاذ إلى ماخور للسياحة الجنسية وأكبر منتج للمخدرات في العالم بعد أفغانستان، تذر للقصر دخلا يناهز 13 مليار دولار سنويا، فيما السجون مكتظة كعلب السردين بالتجار الصغار..
أو بلد مثل لبنان الذي دخل مواطنوه عصر العولمة من دون ماء ولا كهرباء ولا لقمة عيش نظيفة، ووصل فيه الفساد حدا لا يطاق، وتحول من عاصمة للثقافة العربية والترجمة والنشر والإبداع، ومركزا ماليا كان يراد له أن يكون سويسرا الشرق، فحولته “السعودية” و “إسرائيل” إلى بلد المافيات السياسية والمالية وسماسرة السلاح والدم، ومرتعا لكل الجماعات التكفيرية ومرتزقة القتل..
أو بلد مثل مصر الذي استحوذ العسكر على 40% من إقتصاده، وحولوا الشعب الفقير الجائع إلى زبون لمنتجات مصانعهم الرديئة، وجعلوا من العساكر عمالا للسخرة يجمعون البيض في مزارع الدجاج..
أو بلد كالسعودية التي تحكمها قبيلة آل سعود اليهود، باعتبارهم وكلاء لأمريكا على أكبر إحتياطي للنفط، حيث يعيش ما يقارب نصف السكان تحت حافة الفقر، ولا تتوفر مدن كبرى كجدة وغيرها على أبسط مقومات البنية التحتية لتصريف مياه الأمطار، ويبنون للمواطنين مدارس من قصدير، ويضطر الفقير المعدم إلى بيع أعضائه البشرية لإطعام أبنائه بدل قتلهم خشية الإملاق. وتصل البطالة فيه معدلات مهولة، ويطبقون شريعة تأمر بقطع يد سارق رغيف العيش وترغم الناس على تقبيل يد لصوص كبار هربوا تريليونات الدولارات من مقدرات الشعب إلى مصارف أجنبية، وينفقون الميزانيات المخصصة للتنمية على شراء السلاح الذي لا يستعملونه، وتمويل الإرهاب الذي يسخرونه لخراب دول عربية وإسلامية بإسم العروبة والإسلام، وينفقون المليارات على نشر زبالة الفكر الوهابي التكفيري في كل أرجاء المعمور، ويمولون حروب أمريكا وإسرائيل ضد دول عربية وضد المقاومة الإسلامية في لبنان وغزة، ويشترون الذمم بالمال الحرام في الغرب، ويتآمرون على ثورات الشعوب لأنهم يكرهون التغيير ولا يطيقون سماع كلمة “ديمقراطية” إلا إذا كان المطلوب تطبيقها في غير المهلكة “السعودية”، على شاكلة ديمقراطية الطوائف والمذاهب في لبنان والعراق وسورية.
وهي نتائج طبيعية أساسها فشل برامج التنمية بسبب فساد الحكام الذين لم تكن لديهم رؤية ولا مشروع تنوي حقيقي لشعوبهم، برغم الخيرات الكثيرة التي حبا الله بها المنطقة العربية، وسخرت لخدمة مشاريع مشبوهة لم ينل المواطن العربي منها حتى الفتات.
لكن وهذا هو الأهم، إكتشف المواطن العربي أن الإستعمار وإن خرج من الأوطان إلا أنه ظل قابعا متخفيا في قرارات الحكام الذين رهنوا مصيرهم ومصير أوطانهم للقوى الغربية المناهضة لحق العرب في الخروج من زمن الجاهلية إلى عصر النهضة حتى لا نقول الحداثة فأحرى الحديث عن ما بعد الحداثة.
وكانت الأنظمة العميلة الفاسدة تعتقد، أن الولاء للقوى الدولية والإنخراط في سياساتها التخريبية، مع الإعتماد على قوى الأمن والجيش وتشويه عقيدتها ليكون الولاء للحكام لا للأوطان، وتقوية كلاب المخابرات، وإحتكار الخطاب الديني المحور والإعلامي المشوه لتدجين الناس، وإفساد التعليم لإنتاج الجهل، من شأنه أن يضبط الشارع العربي ويقيها تداعيات الزلازل القادمة.
وهذا ما فهمته بعمق “داعش” ولعبت على أوثاره بذكاء.. والذين يتساءلون عن سبب تركيز “داعش” على الساحات العربية بدل محاربة “إسرائيل”، عليهم أن يفهموا أنه لا يمكن كسب الحرب ضد “إسرائيل” قبل تطهير الساحة الداخلية من الأنظمة التي يعتبرونها المسؤولة عن قيام إسرائيل وإحتلالها لفلسطين، وقد تتقاطع مصالحهم مع الكيان الصهيوني فيتعاونون معه، لكنهم وكما فعلوا مع أمريكا والسعودية وغيرها، ما أن يتمكنوا حتى ينقلبوا كالأفاعي السوداء فيعضون من مد إليهم يد المساعدة، وهذا معروف من تجربة القاعدة في أفغانستان، و”داعش” وأخواتها ليسوا إستثناء، بل يعملون وفق ما يعتقدون أنه فقه الأولويات..
وإذا سألتهم لماذا لا يحاربون أمريكا في السعودية مثلا، سيقولون لك من يحارب دولة لها معاهدة سلام مع المسلمين لن يدخل الجنة، ويقصدون أن دولة “داعش” تحترم معاهداتها مع أمريكا التي تساعدها، لكن من يحارب “المسلمين” الذين يعتبرونهم مجتمعا جاهليا ضالا سيحضى بحفل غذاء مع الرسول (ص) في الجنة، بالإضافة لحياة النعيم في حضن 70 حورية يتمتعن بجمال لم تراه عين ولم تسمع به أذن ولا خطر على بال بشر.
وحدها الرغبة في “التغيير” هي التي ساهمت في تحول “داعش” من جماعة تكفيرية خرجت من رحم القاعدة إلى منظمة فدولة، لها رؤية شمولية جامعة، تبيع البسطاء وهم الوحدة تحت مظلة الخلافة على إمتداد العالم العربي والإسلامي، وتحقيق العدالة من مدخل تطبيق “الشريعة الإسلامية” التي لا تختلف في شيىء عن شريعة اليهود القديمة التي يطبقها اليوم آل سعود في شبه الجزيرة العربية.
وبهذا المعنى، مخطىء من يعتقد أن السر وراء تحويل “داعش” إلى قطب يجذب الشباب هو الدين فقط، بل والسياسة أيضا، لأن “داعش” قدمت للبائسين واليائسين والجهلة والمستضعفين رؤية بفوائد إقتصادية مغرية في العاجلة ووعود بالخلاص والنعيم الدائم المقيم في الآخرة.. وترجمت رؤيتها إلى واقع على الأرض، فميزت نفسها عن الأنظمة والنخب العربية التي كانت ولا تزال تخطب ود الشارع العربي بالشعارات الجوفاء.
وإذا كانت المقاومة الشريفة وسيلة لا غاية في حد ذاتها، لأن دورها ينتهي عمليا بتحقيق التحرير، فقد آن الأوان لهذه المقاومة التي نؤمن بها لما تمثله من خلاص للأمة، لأن تراجع أدبياتها بعد ان لم تعد ملك نفسها بل ملك الأمة، وبعد أن تحولت من مقاومة لبنانية إلى مقاومة إقليمية فمنظمة دولية يخطب ودها الكبار كروسيا والصين، وأصبح الأمل معقودا عليها لإنقاذ الأمة، بوضع رؤية سياسية جديدة تعلن من خلالها مشروعها الكبير للإنقاذ المنطقة، بعد أن سقطت الحدود والشعارات وكل المقولات والإعتبارات القديمة..
نحن في أمس الحاجة اليوم لرؤية واضحة ومشروع كبير تقوده المقاومة الشريفة، من شأنه أن يجمع ما تبقي من شتات الأمة قبل فوات الأوان، ولا نتحدث عن الدول التي لها حساباتها وإعتباراتها السياسية الخاصة..
وإذا كان ما تفعله أمريكا اليوم هو لمصلحة أمن وإستقرار هذا السرطان المسمى “إسرائيل”، فلتكن البداية بإعلان تحرير فلسطين، وإذا تدخلت أمريكا فمصالحها وقواعدها في المنطقة على مرمى حجر، ما سيقلب كل المعادلات ويعيد لحياة الناس معنى ولوجودهم قيمة.. غير ذلك، فلننتظر جميعا الكارثة بعد أن أصبح لـ”داعش” فروع وأرجل وأدرع تمتد من أقصى المغرب إلى حدود إيران.
وللمقاومــة واســـع النظـــر..