هل أنهت تفاهمات “الأمر الواقع” خريطة الدم؟‎

هل أنهت تفاهمات “الأمر الواقع” خريطة الدم؟‎

تحليل وآراء

الجمعة، ٢١ نوفمبر ٢٠١٤

حلف واشنطن، البنية السياسية والعسكرية التي تشغل بال الكثيرين في المنطقة والعالم، في أي مرحلة هو؟ وما هو المستوى الذي بلغته “العلاقات” السورية-الأمريكية؟ وإلى أي منهم نحن أقرب، الحرب أم التفاهمات؟ إنها الأسئلة التي سأحاول البحث عن إجابات مقنعة عنها ما أمكنني ذلك، بالقليل من المعلومات المتوفرة، وبالكثير من الاستقراء والتحليل.
* حقائق الميدان تُسقط مؤتمر جدة:

عقدت أمريكا اجتماع في جده لعدد من حلفائها الإقليميين والدوليين، لتعلن من هناك تحالفها المزعوم لمحاربة داعش، لكن رزمة من التحديات واجهت هذا الحلف قبل أن يبدأ:

1- كيف يمكن محاربة داعش في العراق وسورية، دون وجود موسكو وطهران؟ موسكو التي أرسلت عدد من الطائرات القاذفة وأطقمها اللازمة إلى بغداد حتى قبل أن تفعل طهران ذلك، موسكو حليف قديم وقوي لدمشق. أما طهران المهددة بخطر داعش، فلديها علاقات خاصة ومتشعبة مع العراق، ويربطها تحالف قوي مع دمشق.

2- بطبيعة الحال تمّ استثناء دمشق مع هذا التحالف، وفي سياق الحرب عليها، كيف يمكن لهذا التحالف أن يحارب داعش في سورية والعراق دون أن تستفيد سورية من هذه الضربات؟

3- لا يمكن لأمريكا وأدواتها في المنطقة أن تنسى بأن حكومة المالكي، وحلفائها في سورية وإيران هم من أخرج واشنطن من العراق بعد احتلاله لعقد كامل، وهي تريد استثمار داعش لفرض وقائع تلبي مصالحها في التعويض عن هذه الهزيمة المذلة، لكن السؤال المنطقي الذي سيتبادر إلى الذهن مباشرة، من سيكون البديل عن الحكومة العراقية برئاسة المالكي، وعن القيادة السورية بزعامة الرئيس بشار حافظ الأسد؟.

4- تفاقم مأزق واشنطن وحلفها، فاكتفت بأن يكون البديل عن المالكي أحد رفاقه، في حكومة سيكون أحد نواب رئيسها المالكي نفسه، وأن “تبيع” حلفائها وأدواتها وَهمَ “المعارضة المعتدلة” التي ستكون جاهزة للحلول مكان الرئيس الأسد بعد ثلاثة أو خمسة أعوام، ولكنها في الجانب الآخر كانت تضع اللمسات الأخيرة على “تفاهم الأمر الواقع” مع دمشق.
* تفاهمات “الأمر الواقع”:

عندما سئل وزير الخارجية “المعلم” عن موقف الحكومة السورية من تحالف واشنطن، قال: (الخيار الأول: الرفض ـ من دون القدرة على ترجمته عسكرياً بنجاح وهذا بدوره يمنح المتطرفين في مؤسسة الحكم الأميركية، وحلفاء واشنطن الإقليميين، الذريعة المناسبة لشن حرب أميركيةـــأطلسية على سوريا ولن نمنحهم هذه الذريعة. الخيار الثاني: هو القبول السياسي، وهذا يتعارض مع استراتيجيتنا السيادية والسياسية، وهكذا كان هناك خيار ثالث، “القبول الواقعي”؛ لا مغامرة في مواجهة خاسرة ولا اعتراف سياسي). لنحاول التفسير:

1- داعش، أداة أمريكية-عربية-تركية، بمعنى أنها تحقق الكثير من أهدافهم، وتتلقى دعمهم المباشر وغير المباشر، وهم من أسبغ عليها الشرعية عندما وصفوها، بالتعبير العنيف عن تهميش السنة في العراق وسورية. بعد هذا التعريف لن يكون مهماً جداً التحديد بدقة، من يأمر، ولصالح من تعمل.

2- حاولت واشنطن استثمار خطر داعش على المنطقة، ليكون الجسر الذي تعبر فوقه واشنطن بمصالحها إلى المنطقة مجدداً. واقعيّاً، داعش ليس تنظيم يستحيل هزيمته، فهو يتحرك في مناطق معزولة وسهلة التضاريس عموماً، ولديه إمكانات محدودة، ويحيط به عدد من الدول القوية والقادرة على هزيمته بيسر، وطبيعته الإجرامية تجعل من تمدده شعبيّاً أمراً محدوداً جداً… لكن ذلك يتطلب إرادة جماعية، إقليمية-دولية لهزيمته، وهذا ما تحاول واشنطن إستغلاله، وهذا ما حاولت تركيا إبتزاز واشنطن عبره.

3- بقيت داعش حرّة في التوسع والقتل والتهجير… حتى شارفت على حدود أربيل، حيث المصالح الأمريكية المباشرة، شركتان عملاقتان للنفط تعودان للحزبين الأمريكيين الجمهوري والديمقراطي، وقاعدة تجسس أمريكية كبيرة… عندها فقط تحركت واشنطن، وقبل أن تتلقى طلباً من الحكومة العراقية في بغداد.

4- اكتشفت واشنطن أن محاربة داعش حول إقليم كردستان ستتطور إلى معركة إستنزاف طويلة الأمد، وقد تكون خاسرة في نهاية الأمر، فقررت ملاحقته في العراق. لكن مجريات الميدان أعادتها إلى نقطة البداية مرة أخرى، لا هزيمة لداعش في العراق إلا بهزيمته في سورية أيضاً. لكن كيف لها أن تحارب داعش هناك دون التنسيق مع عدوها اللدود بشار الأسد؟ وكيف ستحارب داعش في العراق وسورية دون أن يستفيد من هذا الجهد الرئيس بشار حافظ الأسد، الذي تحاربه هي وحلفائها، وأدواتهم في سورية منذ أربعة أعوام تقريباً؟.

5- إضطرت واشنطن لعقد “تفاهمات الأمر الواقع” مع سورية، بعد إجراء سلسلة من الاتصالات معها، بعضها مباشر مثل لقاء مسقط، وعبر الوسطاء، كمستشار الأمن الوطني لرئيس الحكومة العراقية.
* معركة عين العرب، هيبة واشنطن، أفخاخ أردوغان، وتحالف يتداعى:

دون أية مبررات منطقية، قوة كبيرة من داعش تهاجم عين العرب، لهذا أجمع عدد كبير من المحللين والسياسيين أن غزوها كان بأوامر تركية وتحقيقاً لمصالحها، وأحد أهم هذه المصالح التركية، جرّ واشنطن إلى حرب مفتوحة مع سورية. يُخطئ من يقول بأن هدف أردوغان من غزوة داعش، هو إقامة منطقة آمنة في عين العرب على غرار كردستان العراق، والخلاص من نموذج الإدارة الذاتية الكردية فيها. إن فرض المنطقة الآمنة، سيعني تلقائياً حماية الإدارة الذاتية هناك، وهو ما يرفضه أردوغان، ويحول كرد سورية إلى “الحلفاء على الأرض” الذين تسعى واشنطن لإيجادهم بأي ثمن. كيف نفسر هذا اللغز؟ لنتذكر المشهد:

1- اشتعلت معركة عين العرب، وقتل المئات، وتشرد عشرات الآلاف… بينما واشنطن تقول: إن محاربة داعش في المدينة خارج إستراتيجيتها.

2- واشنطن ترفض إقامة منطقة آمنة هناك، أي، امتناعها هي، ورفضها لأي مسعى تركي أيضاً لإقامة مثل هذه المنطقة، خصوصاً مع رفض موسكو وطهران القاطع لأي تدخل تركي في الأراضي السورية.

3- الدبابات التركية تتسمّر على الحدود مع المدينة، والعالم مشغول بمتابعة محاولات داعش لافتراسها، وبالمقاومة البطولية التي يظهرها بضعة مئات من السكان المحليين، على مرأى ومسمع من العالم.

4- واشنطن تسعى لتوسيع نشاط تحالفها على الأراضي السورية؛ فكيف ستقف مكتوفة الأيدي أمام هذا التحدي المأساوي؟ إنّه الفخ الذي نصبه أردوغان لأوباما. لكن، واشنطن مجبرة على مساندة عين العرب، لكن كيف ستساندها دون “تفاهم جديد” مع دمشق؟.
* فرضية، عدو عاقل خير من صديق مغامر:

لقد كان “المعلم” دقيقاً في وصف العلاقة السورية-الأمريكية، عندما قال:( لا يوجد تنسيق بيننا وبين الأميركيين، ولا صفقة). فالتنسيق يكون بين الأصدقاء، والصفقة تتم بين مشترٍ وبائع، وسورية الدولة الوطنية والمبدئية لا تتعامل بهذا المنطق المبتذل، وإن كانت واشنطن تلجأ إليه وتتفنن فيه تاريخيّاً.

لعل عين العرب كانت خارج النطاق الجغرافي “لتفاهم الأمر الواقع” الذي تمّ سابقاً. ألم يقل “المعلم” حرفيّاً: (قبل أن يبدأ الأميركيون طلعاتهم الجوية، كان سلاح الجو السوري يقوم يومياً، بضرب تجمعات داعش حول عين العرب، لكنه اضطر للتوقف لأنه لا يوجد تنسيق ميداني مع الأميركيين)؟. غضب أوباما من أردوغان عقب تكشف أبعاد الفخ الذي كان يعده له، إنها المرة الثالثة على الأقل. ما الحل؟ لا حلّ إلا بطرق أبواب دمشق. طرقت واشنطن أبواب دمشق، وتمّ التوصل إلى تفاهم جديد. ربما هذا ما دفع موسكو لنصيحة دمشق بعدم الوثوق بتعهدات واشنطن. بمكالمة هاتفية مقتضبة، ليلة 19/10 يُبلغ أوباما أردوغان بأنه أمر طائراته بإلقاء السلاح والذخائر لعين العرب، وأن قوة من البشمركة ستعبر الأراضي التركية لنجدة عين العرب. أمريكا تقصف داعش حول عين العرب، وتلقي لها السلاح والذخائر بالمظلات، ولكن أين دمشق؟. عندما قرأت ما قاله “المعلم” عن عين العرب لفتتني العبارة التالية بقوة: (عين العرب سورية، ومواطنوها سوريون. ونحن كنا ولا نزال نزوّدها بالمؤن والسلاح والذخائر، وسنستمر) هذا الكلام قيل قبل أيام فقط، فكيف “سنستمر” كما قال “المعلم” وكلنا يعرف حال المدينة؟ هذا يعيدنا إلى “التفاهم الجديد”، ما هي أهم بنوده “المفترضة”؟.

1- تقوم واشنطن بإلقاء الذخائر والأسلحة والمؤن لعين العرب، كما كانت تفعل الحكومة السورية، منعاً لأي احتكاك سوري-تركي سيشعل المنطقة. ظهرت أهمية هذا البند عندما عُثر على ثلاث طائرات حربية مع داعش في أحد المطارات شمال حلب، ربما كانت ستستخدمها تركيا في ضرب أهداف على أراضيها لإفتعال حرب تركية-سورية تخلط الأوراق مجدداً.

2- تقوم واشنطن لوحدها، بمطاردة داعش على الأراضي السورية، ووفق “تفاهمات الأمر الواقع”، منعاً لارتكاب أي طرف في تحالفها لخطأً ما –مقصود أو غير مقصود- ضد مواقع الجيش العربي السوري، قد يؤدي إلى تدهور الوضع، وهذا يفسر غياب العنصر العربي والغربي عن هذه الضربات مؤخراً.

3- تنهي واشنطن اعترافها بـ”الإئتلاف الوطني” مبدئياً، وتتخلى بالتدريج عن خطط تدريب “المعارضة المعتدلة” بعد استئناف عملية سياسية مرتقبة، وكلنا سمع وقرأ عن مثل هذه المعلومات.

4- تفرض واشنطن وحلفائها، قيود فعالة على تمويل داعش وتسلحها والتحاق إرهابيون جدد بصفوفها، وهذا يفسر هجوم بايدن على تركيا والسعودية.

5- ولمن يقول على ماذا ستحصل واشنطن من هذا التفاهم، بكلمة واحدة: تقتضي الحكمة بعدم إهانة الخصم المكسور حتى لا ندفعه لمواجهتنا، بحرب اليائس المنتفض لكرامته، ولا أرى حال واشنطن وأوباما إلا هكذا.
* أهي الحرب أم التفاهمات؟:

خطت واشنطن نحو دمشق عدة خطوات، وبعيداً عن الديباجة المخصصة للاستهلاك الإعلامي، فإن جديد التصريحات الأمريكية كلمات زاخرة “بالتغيير”، وآخرها ما قاله أوباما نفسه: (إن التحالف مع الأسد سيضر بتحالفنا ضد داعش) من طرح الفكرة، وكيف سيكون هذا التحالف؟! لم أسمع عن مسؤول سوري طلب التحالف مع واشنطنً؟! أهي نهاية خريطة الدم وحدودها التي “خبرناها” لأربعة أعوام؟. يبقى هذا المسار في بداياته، وقد ينتكس في أي لحظة، وهو ما تتحسب له سورية عندما قال وزير خارجيتها “المعلم”:(مؤقتاً، ندرك أن الرئيس الأميركي باراك أوباما، لأسباب داخلية، يريد تجنّب الحرب مع سوريا، مكتفياً بالتدخل الجوي ضد داعش. ونحن نفيد من ذلك. لكن لا نعرف كيف سيتصرف أوباما، تحت الضغوط المتصاعدة، والتي ستكون أكثر تأثيراً إذا ما تمكن الجمهوريون من تحقيق أغلبية في الانتخابات الأميركية النصفية).