ما بعد تمزيق الحقائق والأخلاق.. بقلم: د. عبد الرزاق المؤنس

ما بعد تمزيق الحقائق والأخلاق.. بقلم: د. عبد الرزاق المؤنس

تحليل وآراء

الأربعاء، ١٢ نوفمبر ٢٠١٤

إنّ أميركا هي الدولة الوحيدة في العالم اليوم التي لم تطرح حتى الآن شعار الحذر من الغزو الثقافي مع أنّها تفتقر إلى العمق الحضاري والهوية التاريخية المتميزة؛ فهي تملك السلطة في مجالات القوة والقدرة والمعرفة، والمتفوق لا يطرح عادة شعار الغزو ولا يهابه بل هو الذي يغزو..، وهذه الحقيقة هي التي كانت لأمتنا ثم غفلت عنها بل أفسدتها بأيديها بالرغم مما اختصت به بما لم يكن لأية أمة غيرها؛ فماذا يعنيها أو يغنيها في مرحلة هذا الزمن بعد ترديها أنها ولدت من العمق الحضاري المنطلق من السماء ومن العلوم جميعاً أو أنها تتربع هوية وموروثاً ثقافياً على ذخائر المكونات الحضارية البشرية وعلى أركانها المقدسة، معرفية وخلقية بعد أن استجابت لما أريد لها من غفلات على منحدرات التراخي والتكاسلات، ولتتغيب ثم لتتفرق وتتحرف بأيديها ثم لتنهار عزتها وكرامتها، فلم يعد يرتفع منها إلا أطلال أمجادها إلى فضاء الأحلام والأماني والغرور وسط لغة الشكوى والتظلم والبكاء على ما فات من قمم الماضي التليد ومن مقاماته، وكلنا يعلم أنه لا سبيل إلى صد ما ألم بنا وآلمنا إلا بتحقيق شروط النهضة وإحراز التقدم على الصعيد الموضوعي بعد تفهم أعراف الآخرين والتفقه بمعرفة شروط التواصل والتبادل والتعارف مع الأمم والشعوب دون ذوبان ثوابتنا لنخرج من حال تكلّسات العقول اليوم ومن ضمور استراتيجيات الفهم والإبداع وحيوياتها وقد أحاطت بنا مثبطات الفهم ومسكرات الطاقة والنهوض؛ فصرنا ننظر إلى قواعد التعقل والتفكر التي تحفزنا وتدعونا إلى كل إبداع وتطوير واجتهاد نحو تعزيز قوتنا ووجودنا حتى نتحرك في الأفق العالمي الأممي والبشري- مما هو معلوم في القرآن وفي الهدي النبوي وإفتاءات أئمة الاجتهاد- على أنها نصوص قواعد ومبادئ وأساسيات قطعية الثبوت والدلالة حصراً ممنوعة – ونحن في إغماءات والقلوب- على الاجتهاد والإبداع حذراً من الابتداع، ولقد غلب على كل نشاطات ذوي المسؤوليات في مختلف التخصصات الدينية أو التربوية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الإعلامية بل الإدارية والاقتصادية وغيرها.. لغة الشكوى والتشاؤم والنقد- إلا قليلاً جداً من مبادرات ومبشرات- مع لغة (كان وكنا وينبغي أن نكون ويلزم وعلينا ويجب وإذا أردنا..) حتى صدق علينا اليوم قول الإمام الزمخشري من القرن السادس الهجري:
نهاية إقدام العقول عقال                وأكثر سعي العالمين ضلال
ولم نستفد من دهرنا طول عمرنا        سوى جمع ما فيه قيل وقال!
فأين المبشرات؟ وأين الإنجازات؟ وأين المشاريع والمبادرات؟! وهل نبقى متفرجين على ضياع الشباب والإناث وعلى ضياع الغنى العظيم الذي ائتمنت عليه هذه الأمة في قدراتها وطاقاتها وسط الأنانيات والانتهازيات والنفاقيات، ولإرضاء المصالح والأشخاص والجهات الأخرى ومراميها الخارجية في هذه الأمة حتى أضحت اليوم مشاريع الإيمان والتربية والعلم مهنة وصناعات لا يهم فيها حضور الثمرات في الأمانة والتزكية والإبداع والتعاون والتحابب والتآخي على مستويات الأفراد والمجتمعات والوطن، إنّ معركة الغزو الثقافي التي تستهدف هذه الأمة وخاصة في رأسها من بلاد الشام وما حولها تجتهد إلى تحقيق أغراض عملية؛ فلذلك يتوجه الغزو إلى الواقع مباشرة ليقارع الدولة على أرضها في مواطن قوتها بحنكة وبخبث لتحييد قطاعات من الشعب ولاسيما قطاعات الشباب وعزلها عن الدولة ونظامها وثوابتها إلى فئات عاطلة فاسدة ومخربة أيضاً، والمعركة حين تبلغ هذه المرحلة تكون خطيرة لأنّ الصراع هو على الأرض مباشرة، والإنسان في أصل طبيعته عرضة لإغراءات عملية ولإفساد سلوكي لا يفلح الفكر وحده في مواجهته- هذا إن وُجدَ الفكر والتفكير!!- بل لابد من تحصين مراتع هذه الأرض ومخصباتها، وتأمين حاجات المجتمع كي لا ينفلت الإنسان ولا يهزم أمام غزو الواقع، من هنا لا يكفي في مواجهة هذا الضرب من الغزو أن نتحدث عن دوافعه ووسائله ونحن في الفضاء!..، ولا أن نؤلف الكتب فنمجد فيها الإسلام وندين الغرب، أو أن نستعرض فتنة الأزمة ونضع التحليلات ومفاهيم فقهياتها؛ فهذه جميعاً وسائل تدخل في شروط المرحلة الأولى في صد الغزو؛ أما المرحلة الحالية فهي تحتاج إلى عمل وإلى إنجازات يشهدها الواقع على الأرض ويستفيد منها الإنسان مباشرة؛ فالشباب الذي تحاصره مصائد الإنترنت ومزالق آليات التواصل الاجتماعي التي تغزو هويته، وتغريه وتجتذبه وسط حيرته وكآباته النفسية وأزمات معاشه، وتنهمر عليه الصور الماجنة في كل موضع من مدرسة أو شارع أو خلوات البيت وتوفر بين يديه أنواع المخدرات يحتاج حتى يملك الضمانة لعدم الانحدار نحو شباك العدو إلى شروط موضوعية وأعمال ناجزة في الواقع من زواج وعمل ورفاه معقول بالإضافة إلى الحصانة الأخلاقية والوازع الديني، بل إنّ الوازع الديني والحصانة الأخلاقية يتصلبان من خلال الشروط الموضوعية وعبرها بشرط أن يوجد أهلها المؤهلون والكفاءات الصادقة والأيدي الأمينة، وذوو الطهر في قلوبهم وعقولهم ونفوسهم لا في مظاهرهم وزخارف اللحن في أقوالهم حتى يصدق حقاً في همم الشباب والشابات، وفي إبداع عطاءاتهم واجتهاداتهم قول المتنبي:
فاطلب العز في لظى وذر الذل        ولو كان في جنان الخلود
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي        وبنفسي فخرت لا بجدودي