متنزه النيربين وعصفورته.. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

متنزه النيربين وعصفورته.. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

تحليل وآراء

الأربعاء، ١٢ نوفمبر ٢٠١٤

هذا المتنزّه يحدده مكانياً أصحاب الاختصاص في الموروثات المكانية المتحولة من تسميته إلى تسميته تراثاً ومعاصرة. موقع هذا المتنزه ينطبق في أيامنا هذه على حي المالكي وغربيّه ومنطقة مشفى الشامي وحديقة تشرين.
وهذا المتنزه أيضاً أوحى للشاعر الكبير وصاحب "الأعلام" الجليل المرحوم خير الدين الزركلي بمخاطبة عصفورة ترف بجناحيها الصغيرين الجميلين فيه بقصيدة نسب فيها العصفورة إلى المكان ليصير اسم القصيدة "عصفورة النيربين". هذه القصيدة استظهرناها تلمذة وغنيناها طلبة دون أن نعرف ما "النيربين". وحين غدونا رجالاً انتزعنا حبُّ المعرفة للبحث عنها وعن غيرها لاسيما أن المطبوعات القديمة والمخطوطات الأكثر قدماً المأثورة عن الرحالة العرب والمؤرخين والجغرافيين والمدونين، ومنهم بخاصة ابن فضلان وابن بطوطة، ثم ابن الأثير وياقوت وابن كثير وابن عساكر وابن طولون... وتنير لنا المسالك للوصول في البحث إلى ما نريد بالرغم من تغيّر التسميات والشكل التراثي للمسميات، وسيكون من المتصدين لمثل هذه الأمور وإشباعها بحثاً علماء أجلاء أمثال الشيخ محمد دهمان والدكتور صلاح الدين المنجد _ يرحمهما الله _ والدكتور أحمد ايبش حفظه الله.
هذا المتنزّه _ نعني (النيربين) _ رآه أبو البقاء عبد الله بن محمد البدري الدمشقي واحداً من محاسن الشام وأورد اسمه "البهنسية" ووصفه بأنه روض يجمع بين الأشجار والفواكه والأزهار مع عيون الماء، وتظهر منه إلى (مرجة جسر ابن شواش). ويخبرنا البدري أنّ في هذا المتنزّه مقاصف وبيع وشراء، ويتوصل منه إلى ما يسميه البدري بأرض (حمص) ما بين رياض وغياض. ويعلوها محلّة (النيربين) وهي _ حسب وصفه_ من أعظم المحلات وأخضرها وأنضرها، "حسنة الأثمار كثيرة الأزهار وبها سويقة وحمّام يقال له (حمّام الزمرد) وجامع بخطبه، وهي مسكن الرؤساء والأعيان وبها دار قاضي القضاة (نجم الدين بن حجي) وفيها قتل رحمه الله، ومنها ندخل إلى أرض الربوة".
  لكننا لن ندخل الآن إلى الربوة دون أن نكون مع قرائنا الأعزاء في عدد قادم من مجلة (الأزمنة) فعصفورة النيربين قد تطير إلى غصن آخر من شجرة أخرى قبل أن نسمعها ما قاله لها الزركلي؛ ولن نسمعها ما قاله قبل أن نقف مع قرائنا _ الشباب منهم بخاصة _ ونحدد الأمكنة الراهنة لما كان يسمى في القرن التاسع الهجري [مرجة جسر ابن شواش وأراضي حمص ومحلة النيربين]. فالأولى: عند بساتين كيوان، حسب تحديد ايبش، ما بين فندق الشيراتون وزقاق الصخر الواقع إلى الشرق من مستشفى المواساة. وكانت هذه المرجة على حالها حتى الأمس القريب حيث بدئ مؤخراً بتجهيزها لبناء مجموعة من الفنادق في بساتين كيوان على ضفة بردى إلى الشرق من طاحون الرهبان (المعروفة بطاحون كيوان في العهد العثماني وحتى يومنا الحاضر) وكانت من ضمن بساتين الوادي التحتاني. أما الجسر فيُنسب إلى الحسن بن شواش المقرئ (473 ه) وما زال باقياً وله أربع قناطر حجرية.
أما أراضي حمص فقد انفرد البدري بذكرها بين من أرّخ لدمشق وخططها، باستثناء الأديب الرحالة تقي الدين بن حجّة الحموي الذي ذكر في رحلة لدمشق عام 791 هجرية حسب توثيق ايبش (نهر حمص). ويُستخلص من قوله ومن قول البدري أنّه فرع من بردى يتفرع منه في منطقة (الوادي التحتاني) شرق الربوة. وموقع هذه المنطقة اليوم ينطبق على الجزء الأسفل الجنوبي من حديقة (تشرين) المحدثة على طريق بيروت، وصولاً إلى الأرض التي كان بها مسبح السريانا ومقر الكلاب البوليسية.
عصفورة النيربين لما تزل تتلقى ما يخاطبها به العلامة العربي الشامي الراحل المرحوم خير الدين الزركلي في قوله:

عصفورة النيربين غنّي
واروي حديث الأنين عنّي
أنا المُعنّى، وما المعنِّي
غير حنينٍ، أذاب منّي
شغاف قلبي،وحسنَ ظنّي!

عصفورة النيربين_ نوحي!
يضمّد النوح من جروحي،
لم يُبق لي الهمّ غير روحي،
ما القلب، ما الجسم، في الصحيح ِ!
ما بيَ عِرقٌ بمطمئنِّ!


ألفتُ شجوي، وعفتُ لهوي،
فأينَ صفوي، وأينَ زهوي؟
سَكِرتُ حتى نسيتُ صحوي،
ومن كؤوس النّكوب نشوي،
ومن أجاج الخطوب دَنّي....

إن أهوَ لا أهوَ غير آلي
دمي فداءٌ لهم، ومالي!
أحسنتُ ظنّي بهم، فمالي
خابت أمانيَّ في الرجال؟
ليت الأمانيَّ بالتمني...!