أدب الحياة.. بقلم: فادي برهان

أدب الحياة.. بقلم: فادي برهان

تحليل وآراء

الثلاثاء، ١١ نوفمبر ٢٠١٤

تعتبر الأخلاق العملية بمنظورها الاجتماعي الترجمة الحقيقية لسلوك الإنسان العاقل المتميز عن غيره من الكائنات الحية بامتلاكه القابليات والمؤهلات العقلية التي يستطيع بوساطتها أن يؤسس لمنظومة علاقاته مع باقي أبناء جنسه بغض النظر عن تنوع مشاربهم ومذاهبهم وطبقاتهم، فالإنسان طالما هو نظيرٌ للإنسان فلا شك أنّه قادر على مد جسور العلاقة الإنسانية واستخدام لغة الحوار السليم وصولاً لتأسيس مجتمع فاضل ومتنوع قائم على أصول متينة مبنية على قواعد التفاهم والاستيعاب والاحترام.
ونحن نلاحظ اليوم أنّ الكثير من المجتمعات الإنسانية التي تبدو للوهلة الأولى محصّنة ومتينة، نراها من داخلها هشة وضعيفة وسريعة العطب وسرعان ما تدبّ الفرقة والفتنة في صفوفها نتيجة الاختلاف البسيط في الرأي أو نتيجة تسرّب إشاعةٍ ما ليس لها أي أساس من الصحة، وبالمقابل نجد مجتمعات إنسانية متماسكة وصلبة جداً يصعب اختراقها وذلك بسبب تمتعّ أفرادها بمنظومة أخلاقية عالية ورفيعة المستوى والتي تقي أهلها أسباب الفرقة والتشرذم، ولذا كان لزاماً على كل إنسان عاقل أن يبحث عن كل ما من شأنه أن يقوّي محيطه الاجتماعي وبيئته التي يعيش فيها وذلك لا يتأتى إلا عن طريق تأصيل الأخلاق في النفوس وصقلها بشكل محكم لأنها بالمفهوم الفلسفي (الأنا الأعلى) الذي يضبط سلوك الإنسان ويردعه عن ارتكاب الرذيلة.
ولا يخفى أيضاً كيف حضّت الأديان على ضرورة التمسك بالأخلاق وشجعت عليها وجعلتها على رأس سلم الأولويات لأن الإنسان بلا أخلاق يفقد إنسانيته مهما كان مركزه الاجتماعي أو الاقتصادي مرموقاً، فالعالِم بلا أخلاق على سبيل المثال كالحمار يحمل أسفاراً وغيره كذلك من عناصر المجتمع البشري.
ولهذا كان لابد لنا أن نكرس أنفسنا في بنائها ونجهدها لصقلها فالأنبياء والأولياء والفلاسفة الكبار وأولئك العمالقة ما خلدهم التاريخ لولا أن أجهدوا أنفسَهم في بناء أنفسِهم.
فالإنسان بسلوكه البشري يغلب عليه الشطط والزلل ويميل بطبعه للاسترخاء والتنصل من الالتزام بالقيود والضوابط ولذا تراه _إن لم يردع نفسه عن الموبقات_ أسوأ حالاً من باقي الكائنات الحية بما فيها الحيوانات والأنكى من ذلك أنه لا يدرك ذلك ولا يعلم أنه في موقع أدنى من مواقعها، فعلى سبيل المثال يخطئ الحمار مرة ولا يكررها مهما حدث ويصبر على كل ما يكلفه به صاحبه من عناء النقل والعمل والحراثة وغيرها، لكن الإنسان يخطئ ويكرر خطأه دون أن يميز أو يعترف، ولا تكاد تجد عنده قيد أنملة من الصبر فبمجرد أن يستفز يثور ويغضب ولا يستطيع أن يضبط نفسه في القول أو السلوك فيتهم ويشتم ويضرب ويحطم ويدمر ولا تهدأ ثائرته حتى يُنزل أشد العقاب بمن استفزه دون أن يدرك أن ردة فعله أكبر بكثيرٍ من فعل الإساءة الذي وجه إليه وأنه بذلك رد الصاع صاعين وإن أخطأ خصمه بحقه قيراطاً فقد رده له ألف قيراط، فلماذا لا يتأمل الإنسان سلوك الحمار ليتعلم منه الصبر والثبات وعدم تكرار الزلل؟ وفي نفس السياق نجد الكثير من الحيوانات المتوحشة التي تنقضّ على فريستها فتنال منها لكننا إن تأملناها نجدها انقضت لتقتات وتشبع وبمجرد أن شبعت هدأت وسكنت ومالت إلى اللطف والألفة لكن الإنسان إن ظفر بخصمه انقض عليه وتربص به وتشفّى منه لا لهدف سوى الانتصار لنفسه والثأر لعنجهيته مع ما يداخل ذلك من الطائفية والمذهبية والتكفير والحكم بالقتل باسم الإله مع ما يرافقه من التعذيب والتقطيع والتمثيل والتسلي بالألم والشغف بالشر والكيدية وسوء النية فلماذا لا نتأمل سلوك الوحوش فنتعلم منها؟
كل ما في الطبيعة هو عبارة عن مدرسة ليعتبر بها الإنسان ويتعلم منها وإن كان تكنولوجياً قد سبق باقي الكائنات الحية لكن ذلك لم يسهم في تطوره الأخلاقي بل على العكس من ذلك أدى إلى غروره وتكبره واستغلال كل مكونات الطبيعة لخدمته دون أن يعتبر بها أو ينظر إليها بعين الرحمة فاستخدمها ليصنع منها الشر والرذيلة وليحارب بوساطتها الخير والفضيلة، وما يحدث في العالم اليوم ما هو إلا استغلال وتحايل وفعل لا أخلاقي ينافي كل الشرائع والأديان والمذاهب والأعراف والعادات والتقاليد والمبادئ والمثل التي شكلت قواعد أساسية كانت حصيلة تجربة إنسانية على مدار القرون الماضية.
 فالأزمة التي تربصت بالعالم العربي اليوم هي أزمة أخلاقية بالدرجة الأولى أدت إلى الفوضى والخراب وكل ما من شأنه أن يبعد الإنسان العربي عن بيئته الحقيقية التي تربى في ظلالها، وكل ما يحصل اليوم هو تأكيد على نظرية الاحتلال والانتداب التي سعى ويسعى إليها الغرب ليقول بأن العرب غير قادرين على إدارة شؤونهم بأنفسهم وغير مؤهلين على حل خلافاتهم باستخدام لغة الحوار والتفاهم فلا حل لمشكلتهم إلا بالاحتلال أو التقسيم، فهل أدركنا اليوم أن أزمتنا أخلاقية؟