الهيمنة مفتاح النظام الدولي

الهيمنة مفتاح النظام الدولي

تحليل وآراء

السبت، ١ نوفمبر ٢٠١٤

لم يكن الإنسان الأول جزءاً من المجتمع، ولم يكن إنساناً اجتماعياً ولا سياسياً، ولكنه وجد بأن المجتمع (التجمع) والتضامن مع الآخرين يؤمن له حياة أفضل، ويحقق له أكثر مما يستطيع تحقيقه بمفرده. لم يكن ذلك بسبب العقلانية التي نعرفها اليوم إنما بسبب الخوف وصراع البقاء.
وقد دفع هذا الإنسانَ ليدخل العقد الاجتماعي وعالم الملكية (التملك)، وبعض المغالين في الوصف يقولون إن أول مجرم في التاريخ هو من قال إن «قطعة الأرض هذه ملكي». أما الملكية الجماعية، فقد بدأت مع تحديد قطعة من الأرض لدفن الموتى وفي بعض الحالات لعبادة الأجداد.
بعد آلاف السنين، بدأت الأمور تتطور من حالة صراع قبلي إلى آخر ديني، حتى ظهور مفهوم نشوء الأمم الذي انبعثت ركائزه بعد مؤتمر «وستفاليا» الذي انعقد في ألمانيا سنة 1648، والذي توصل به المجتمعون إلى معاهدة تنص على عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى واحترام خصوصيتها الدينية وسيادتها على أرضها. ومن ذلك الحين تم ترسيم حدود الأمة التي أخذت مع الأيام المفهوم القومي الذي ما زال سائداً حتى يومنا هذا.
إن وجود الأمة يحتم وجود الحرب وفي الوقت ذاته يولد الصراع الدائم بسبب المصالح الدائمة. وحالة الصراع هذه تستدعي بناء القوة القتالية والسلاح المطلوب، علماً أن السلاح مهما كان نوعه لا يشكل خطراً، إنما ما يدور في رؤوس القادة والسياسيين حول تحديد مصالح الأمة هو الذي يقود إلى الحرب. وبقدر ما تحققه الأمة من بناء قوة قتالية، بقدر ما تذهب بها إلى الحرب من دون ضوابط عالمية. يقول هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق في كتابه الجديد (النظام العالمي)، إنه منذ بدء وستفاليا بدأ تشكيل نظام عالمي مبني على التسلح وتوازن القوى، وأصبح هذا الوضع واقعاً دولياً، ولكن هذا الواقع تغير إلى نظام دولي بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، اللتين تركتا وراءهما الكثير. ومن هنا بدأت العقلانية الدولية تؤطر عمل القادة والسياسيين وتدفعهم إلى إنشاء منظمة دولية ترعى شؤون المجتمع العالمي. ومن جراء ذلك نشأ نظام دولي مبني على بعض قواعد القانون الدولي تحت إسم «عصبة الأمم». ولكن هذا الأمر لم يدم كثيراً، لأن الغليان القومي كعنصر في أوروبا أودى إلى الحرب العالمية الثانية التي برزت من خلالها الولايات المتحدة الأميركية كعنصر أساسي في لعبة الأمم، وبدأت بصماتها تظهر جلية في كل كبيرة وصغيرة، ما أعطى لها الدور الأول في تركيبة النظام الدولي وكتابة ميثاق هيئة الأمم المتحدة.
إن قدر الأمم اليوم هو أن تتكيف مع الدور الأميركي من الناحية الواقعية، لأن تفاعل الدول مع بعضها البعض أصبح مبنياً على قواعد النظام الدولي القائم. وتدعي واشنطن أن قدرها وواجباتها حماية الأمن والاستقرار الدوليين بناء على ما يُمليه الميثاق وبالتحديد مجلس الأمن!
ولكن هذا الدور لم يكن صائباً في بعض الأحيان، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بموضوع الشرق الأوسط واستعمالها حق النقض (الفيتو) لمصلحة إسرائيل، مع كل اعتداءاتها الإجرامية التي مارستها ولا تزال تمارسها على الشعب الفلسطيني، ولكنها تدّعي بأن الشرعية الدولية أعطتها حق استعمال النقض، كما فعلت غيرها من الدول العظمى باستعمال هذا الحق عندما كان الموضوع يتعلق بمصالحها.
يعتقد فرنسيس فوكوياما وهنري كيسنجر ويشاركهما الكثير من الأكاديميين والسياسيين، أن هذا النظام الدولي القائم بزعامة أميركا هو الأحسن في تاريخ البشرية كلها. وقد راحوا يطلقون عليه في بعض الأحيان النظام الدولي الأميركي الجديد. فقد كانت الأنظمة العالمية السابقة قائمة على توازن في القوى التي لم يكن لديها ثوابت راسخة، تحتل أراضي الغير وتستغل ثرواتهم الطبيعية والبشرية، وفي بعض الحالات تلجأ إلى ضم بعض المستعمرات إلى دولها.
ويرى أنصار الواقعية السياسية أن لا أحد يستطيع تغيير النظام الدولي إلا أولئك الذين أوجدوه لأنه واقع، وهذا الواقع هو من صنع الأقوياء، والقوي لا يشارك الضعيف الا بعد تأمين مصالحه، والأقوياء لم يحققوا هذا النظام بناء على التمنيات والأحلام، ولكنهم دفعوا ثمناً غالياً من الدماء والأرواح والتكاليف المادية كي يتربعوا على قمة الهرم العالمي ويملوا إرادتهم على الآخرين.
مهما يكن، فإن النظام الدولي الذي تعيش في كنفه الأمم هو قانون الأقوياء والمنتصرين. وبقدر ما يخدم هذا النظام مصالحهم بقدر ما يحافظون عليه وعلى تركيبته. مثالاً على ذلك فعند نشوء منظمة دول عدم الانحياز مثلاً، تحت شعار لا شرقية ولا غربية كان الرد عليها من على منبر هيئة الأمم واحداً في المغزى والمضمون، من الاتحاد السوفياتي والعالم الحر على السواء. وكان يومها غروميكو مندوب الاتحاد السوفياتي، وهنري كبوت لودج مندوب الولايات المتحدة الأميركية، والاثنان قالا في كلمتيهما إن «من ليس معنا فهو ضدنا». وهذا يدل على أن الأقوياء لا يشاركون أحداً.
وبعدما تربعت واشنطن على رأس النظام الدولي إثر انهيار الاتحاد السوفياتي وعلى مدى أكثر من ثلاثين سنة، لم تغير شيئاً من فلسفة الهيمنة. وهي تدعي أمام العالم بأن دورها هو ما تركه لها «الآباء المؤسسون» الأميركيون من وصايا في الديموقراطية والحرية والعيش الكريم.