الصحافة العربية والقلق على الغد في حضرة الرئيس السيسي

الصحافة العربية والقلق على الغد في حضرة الرئيس السيسي

تحليل وآراء

الأربعاء، ٢٩ أكتوبر ٢٠١٤

وفّر الاحتفال باليوبيل الذهبي لاتحاد الصحافيين العرب الذي احتضنته القاهرة، قبل أيام، الفرصة لأمرين مهمين:
ـ الأول، تلاقي أكثر من خمسين منتسباً إلى مهنة الصحافة في الوطن العربي، جاؤوا بهمومهم واهتماماتهم من مختلف أنحاء الأرض العربية في ما بين موريتانيا واليمن، يحملون شوقاً عظيماً إلى القاهرة ورغبة صادقة في الاطمئنان إلى استقرار الأحوال في بر مصر، لكي تهدأ نفوسهم وليطمئنوا بالاً إلى غدهم في أقطارهم التي كانت وما تزال وستبقى تنظر إلى مصر على أنها القلب، وإلى القاهرة على أنها مصدر التنوير وقلعة الأمان. فحضور مصر وعودتها إلى دورها الجامع من بين أسباب الاطمئنان إلى الغد العربي.
ـ أما الأمر الثاني، والأهم، فهو أن الاحتفال شكّل فرصة للقاء مع الرئيس عبد الفتاح السيسي.. وهو لقاء ينتظره العديد من الصحافيين العرب ليسمعوا منه مباشرة ما يطمئنهم إلى أحوال مصر فيمدهم بشيء من الأمل باستقرار بلادهم المتناثرة بامتداد قارتين ولها سواحل على ثلاثة بحور فضلاً عن إطلالة على المحيط الأطلسي، والتي تعاني بمجملها من مشكلات وأزمات تتهدد بعضها في وجوده وبعضها الآخر في استقلاله.
فأما اتحاد الصحافيين العرب، ومع الاحترام لرئاسته وهيئته الإدارية، فإنه يحمل بصمات الماضي أكثر مما يتصل بالحاضر، كما أنه لا يحتمل أن يكون في المستقبل، إذا لم تستعد الصحافة مكانتها ودورها المؤثر في سياسات بلادها.
إن هذا الاتحاد الذي أنشئ في أعقاب القمة العربية الثانية في الإسكندرية، في العام 1964، كان يعكس إرادة التلاقي بين العرب، ليس فقط بدولهم وأنظمتها الحاكمة، بل أساساً بالأحزاب والتنظيمات وهيئاتها النقابية والثقافية والاجتماعية، ومنها الصحافة، توطيداً لحقيقة أن حاضرهم بهمومه واحد، وأن مستقبلهم بآمالهم وأحلامهم فيه واحد، وأن نهضتهم وعودتهم إلى دنيا الإنتاج والإبداع وسط مناخ صحي هو شرط حياة وإرادة مؤكدة للانتماء إلى العصر.
ولقد تعاقب على قيادة الاتحاد بعض كبار الصحافيين العرب ومنهم الراحلان أحمد بهاء الدين وكامل زهيري وصلاح الدين حافظ. وخاض الاتحاد معارك ضارية للحفاظ على شرف الكلمة وعلى حق الصحافيين في أن يعرفوا، لكي يؤدوا واجبهم المهني بالكفاءة المطلوبة.
اختلف الزمان الآن، وصارت الصحافة واحدة من المؤسسات الإعلامية، وليست أقواها انتشاراً وتأثيراً. وليس السبب في ذلك التقدم المذهل الذي تحقق لوسائط الإعلام والتواصل الاجتماعي (الفضائيات والمواقع الإلكترونية وفيس بوك وتويتر إلخ)، وإنما الأهم والأخطر يتصل بالسياسة.
إن السياسة العربية، الآن، صناديق مغلقة، يعرف أسرارها صحافيو الخارج من مراجعهم ومن كبار مسؤوليهم، فينشرون الأخبار ويحللون مواقف الدول العربية التي يحفظها قادتها غالباً في صدورهم أو في محاضر سرية ممنوع الوصول إليها أو تسريبها بأي حال، في حين تتكرم الدوائر الرسمية ببيانات أو بلاغات مقتضبة، كالبرقيات، لا تفيد قارئها بمعلومة ولا توضح للناس مدى الاختلاف أو التطابق في المصالح قبل السياسة، بين دولنا والدول الأجنبية. وحين يظهر مسؤولان عربي وأجنبي أمام الصحافيين، يتضح عبر الفارق بين أجوبة كل منهما مدى الاحترام الذي يكنه الأجنبي للناس (شعبه أساساً، ثم أهل البلد المضيف)، فلا يتهرب من الإجابة عن أي سؤال، ولا يقمع الصحافي بأن ينظر إليه شزراً ليصمت، أو يكتفي بأن يقول كلمات لا تعني شيئاً.
إن الأنظمة العربية، بوجه عام، قاتلة للصحافة خصوصاً، ولوسائل الإعلام عموماً.
إنها لا تحترم حق شعوبها بأن تعرف حقيقة سياساتها الاقتصادية، بالذات، وعلاقاتها بالدول الأخرى والكبرى أساساً، سواء كانت تغلّفها برودة الخصومة أو كانت تتوهج فيها عناوين التوافق الذي يعني ـ عملياً ـ قدراً من التبعية.
فكيف يمكن الحديث بعد ذلك عن الشفافية وعن احترام حق الشعب في أن يعرف ما يجري داخل بلاده أو من حولها، وسواء اتصل الأمر بالأصدقاء أم بالخصوم (على افتراض أن إسرائيل قد ارتقت من مرتبة العدو إلى مرتبة المنافس أو المزاحم، حتى نتجنب التعبير الأصلي).
لذا تتبدى المفارقة نافرة بين أعداد الصحف، وبالتالي الصحافيين، وبين تأثير هذه الصحف، بكتابها ومحرريها والمخبرين والمراسلين، على السياسات عموماً، سواء في بلادها أم على الدول الأخرى.
وثمة مفارقة أخرى لا تقل إيلاماً: لقد لجأت الدول العربية الغنية إلى إصدار صحف كبرى في العواصم الباردة والبعيدة عن الأرض العربية، وإعطائها طابعاً دولياً. ومن البعيد تشن هذه الصحف حملات الهجوم على الخصوم من العرب، وحملات التأييد للحلفاء الدوليين الكبار، الذين كانوا يُعتبرون في الماضي القريب «مستعمرين» و«محتلين» و«مصادرين للإرادة الوطنية».
وكذا فعلت هذه الدول مع محطات التلفزة، إذ أقامتها في «مناطق حرة» وطمست علاقاتها المباشرة والرسمية بها، فصارت لها وليست فيها، تنطق بسياساتها ولكن بأصوات غير صوتها، فإن «صحف الداخل» في «الدول الطبيعية»، أي غير النفطية، هي في الغالب الأعم محدودة القدرات والإمكانات، محدودة التوزيع، وبالتالي محدودة التأثير، مقارنة بوسائل التواصل ومطبوعات الإعلام الغنية والتي تصدر بعشرات من الصفحات المزينة بإعلانات غالية الأسعار لمنتجات استهلاكية غالية. ولا تحتل «السياسة» في هذه الصحف إلا القليل من الصفحات المكرّسة لأخبار الدولة بالملوك والرؤساء والأمراء والشيوخ والوزراء، في حين تتزايد صفحات الرياضة والأزياء والفن بمختلف مجالاته.
وليست مصادفة أن تتراجع أرقام توزيع الصحف والمجلات السياسية لتحتل الواجهة المجلات الفنية، ومجلات الأزياء، والمجلات الرياضية، وكل ما يسلي ويُبعد الناس عن هموم السياسة.
هل هذا خروج عن الموضوع؟
المهم أن القاهرة المعروفة بسعة صدرها وكرم الضيافة قد استقبلت بالترحاب «جماهير» الاتحاد العام للصحافيين العرب، وكانوا أكثر من خمسين جاؤوا من مشارق الأرض ومغاربها.
ولقد ذهب الجميع إلى قصر الاتحادية، فاستُقبلوا باحترام، وصحبهم من أرشدهم إلى قاعة الزهراء الفخمة، حيث احتل الحشد المقاعد من حول الطاولة المستديرة، حتى إذا ما دخل الرئيس عبد الفتاح السيسي هبّوا يصفقون تحية «لبطل التغيير وإنهاء الحقبة الظلامية لحكم الإخوان»، كما قال من تحدث باسمهم.
غلب الود على الجلسة، خصوصاً وأن ترحيب الرئيس السيسي كان حاراً. أما أجوبته عن الأسئلة المتناثرة وغير المنسقة، وقد وجهها كلٌ من داخل «جنسيته» أكثر مما من داخل «مهنته».
كان الصحافيون يريدون أن يعرفوا أكثر عن مصر في عهدها الجديد. وكانوا بمجملهم يسألون عما يقلقهم في بلادهم وليس فقط في مصر ما بعد الميدان. وما أكثر ما يقلق أي مواطن عربي في أي من هذه الأقطار المنداحة بين المحيط والخليج.
وكان طبيعياً أن يكتفي الرئيس السيسي بأجوبة ديبلوماسية عامة، وأن يتحاشى الدخول في ما يثير الحساسيات أو يزيد من حدة الخلافات بين دول كانت «شقيقة» فغدت «متخاصمة» أو متباعدة، وكانت «قوية» فأضعفها الانقسام الذي بلغ حدود الحرب الأهلية، وظهر ما كانت عهود الاستقلال والنضال من أجل التقدم قد طمسته فاحتلت الساحة السياسية النزعات الطائفية والمذهبية التي تهدد كيانات بعض الدول العربية بالانقسام أو بالتفتت كانتونات.
كان الصحافيون يريدون أن يطرحوا مخاوفهم وقلقهم على المستقبل، بل وعلى الحاضر، مفيدين من وجودهم في مصر، صاحبة الدور القيادي تاريخياً، والتي لم تعرف التعصب الطائفي أو المذهبي، والتي كانت على الدوام أكبر من الخلافات وأكثر حرصاً على أشقائها العرب من أن يأخذها الحقد أو الغرض بعيداً عنهم.
لهذا كانت الأسئلة تعبّر عن الخوف من الغد وعليه، بقدر ما كانت تعبّر عن اختلاف الهموم بين الذين تجمعهم الزمالة وتفرّقهم هموم أوطانهم، سواء بالخوف على كياناتها السياسية أو على أبنائها المهددين بمخاطر عديدة أقساها الحرب الأهلية أو الفتنة الطائفية.
ولقد أمضى الصحافيون فترة من الراحة النفسية، وهم يسمعون كلاماً عاقلاً يهدئ خواطرهم من دون امتلاك ما يطمئنهم إلى غدهم، سواء في مهنتهم التي تعيش ظروفاً قاسية تتهددها في دورها وفي مستقبلها، أو في بلادهم التي تهتز أنظمتها ويسيل الدم غزيراً في أنحائها جميعاً.
وإذا كان القلق هو السيد في المنطقة العربية التي تكاد تفقد هويتها الجامعة فإن استقرار مصر وعودتها إلى دورها الجامع يبقى هو الأمل كما عبّرت الأسئلة وأحاديث السمر بعد اللقاء، الذي كان الود أعظم من حصيلته الصحافية.