مانيفيستو للقرن الواحد والعشرين: أميركا ماذا تُريد؟

مانيفيستو للقرن الواحد والعشرين: أميركا ماذا تُريد؟

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٢٨ أكتوبر ٢٠١٤

 في كتاب هنري كيسينجر الأخير "نظام العالم الجديد"، اعتبر الكاتب أنّ "المفهوم الغربي الذي استندت اليه السياسة في العصر الحديث لم يعد صالحاً".
ولعلّ الفترة الممتدة من سنة 1948، أي بعد الحرب العالمية الثانية الى اليوم، فترة الثنائية القطبية بين روسيا وأميركا ومن ثم الأحادية القطبية بعد سقوط المعسكر الاشتراكي وصولًا الى أوج الهيمنة الأحادية بعد أحداث 11 أيلول، كانت مرحلة إذعان للعديد من الحكومات والشعوب وقد كتمت تلك الدول تحفظاتها الى أن وصلت الأمور الى شفير الهاوية سنة 2008، سنة تهاوي النظام الرأسمالي، فخرجت بعض الدول من حالة الجمود وظهرت في العلن مثلما هو الحال اليوم في بحر الصين الجنوبي وقبلها بعقدين الثورة الإيرانية، وصولاً الى التناقض الواضح في العلاقة الصينية الأمريكية مؤخراً، وغيرها من الأمثلة.

والسؤال الذي طرح نفسه بقوة بعد أحداث 11 أيلول واحتلال أميركا لأفغانستان والعراق: ماذا تريد أميركا من العالم؟
تلك الدولة العظمى بمقدراتها والضخمة في حجم استهلاكها واحتياجاتها (0.05% من سكان العالم يستهلكون 25% من إنتاج العالم)، وتنتج سلاحاً بواقع يفوق الـ400 مليار دولار سنوياً ما يشكل مجموع إنتاج باقي العالم أجمع من السلاح!

الولايات المتحدة الأمريكية أمام أربعة تحديات أساسية في القرن الحادي والعشرين:
أولاً: الحفاظ على قيمة الدولار المرتبط بالنفط وليس باحتياط الذهب، وهذا تحت التهديد اذا ما توجه العالم، وهو متوجه بالفعل، الى اعتماد الغاز المسيّل كمصدر للطاقة تماشياً مع اتفاقية كيوتو 1992 والتي أصبحت حاجة للدول الصناعية للتخفيف من تداعيات وعواقب استعمال النفط الاحفوري الذي يكلف تلك الدول مليارات كثيرة بسبب الفاتورة العالية للانحباس الحراري والغازات الدفيئة، حيث أنّ الفيضانات والأعاصير والكوارث الطبيعية باتت ترهق ميزانيات تلك الدول. لذلك، فإنّ الهيمنة الروسية والإيرانية على الغاز بالإضافة الى ما اكتشف تحت مياه المتوسط وتحت مياه بحر الصين، سيجعل مستقبل الطاقة في يد تعددية دولية مناهضة للولايات المتحدة ممّا يسقط مفاعيل ارتباط الدولار باوبك ليصبح غير ذي قيمة.

ثانياً: تأمين دائم لتصريف كميات السلاح الضخمة والتي تشكل ركيزة مهمة من ركائز الدورة الاقتصادية الامريكية.
ثالثاً: تأمين حاجاتها من الطاقة والتي تبلغ حوالي 20 مليون برميل نفط يومياً، وهي في صدد الوصول الى الاكتفاء الذاتي بعد أربعة أعوام، وقد تبوأت هذا الأسبوع المركز الأول لإنتاج النفط في العالم بواقع 11.25 مليون برميل يومياً بالاستعانة بتقنية استخراج النفط الصخري. (وسيأتي شرح أبعاده في سياق المقال لاحقاً.)
رابعاً: التوكيلات التجارية الاسمية أو ما يسمى فرانشايز، وهي أيضًا تواجه خطر تهديدي في ظل التنافس الشرس للماركات العالمية التي باتت تزاحم الماركات الامريكية نوعيةً وتسويقاً وتتوالد بالمئات يومياً.

لذلك، وأمام كل هذه التحديات، تنوعت الخيارات في النهج الامريكي للسياسة الدولية لتحقيق مصالحها والحفاظ عليها بين حقبةِ وأخرى، فتارةً كانت مرحلة الحرب المباشرة (مرحلة بوش) وتارةً أخرى مرحلة الحرب الناعمة أو القتال من الخلف (مرحلة أوباما)، الى أن أوصلت نتائج هذه السياسات أمريكا الى حائطٍ مسدود يزداد ارتفاعاً يوماً بعد يوم، فرعايتها للتطرف في العالم لإخضاع الشعوب انقلب الى خطرٍ يهدد الامن العالمي بأسره، وخياراتها العسكرية في اوروبا من الدرع الصاروخي الى هيمنة الناتو، أيقظت الدب الروسي من سباته ليعيد رسم خريطة العالم بخطوط ملونة، وليشكل مع باقي دول البريكس والاتحاد الاتيني (البا) تحدياً مصيريًا لهذه الامبراطورية، فما هي الخيارات؟

نفط الخليج خارج المعادلة.
ماذا يعني أن تقرر أميركا الاستغناء على النفط الخليجي والاعتماد على الاكتفاء الذاتي في الطاقة؟ وما انعكاسات ذلك على السياسة الخارجية للولايات المتحدة اتجاه دول الخليج من جهة واتجاه نمور الغاز الصاعدين كروسيا وإيران ولاحقاً الصين؟ وللجواب على ذلك علينا أن نرى كيف تتحرك أميركا على خريطة العالم (المسطحة) كما يصفها "صموئيل شنتون"، لنلاحظ وبوضوح أنها تتقدم في مشروعها العسكري كوجود فاعل في كل العالم (ناتو، درع صاروخي، قواعد عسكرية)، وتتراجع في اعتمادها على مصادر خارجية للطاقة، مما يعني أنّ الولايات المتحدة تحاول فرض وجودها كبوليس دولي يأخذ راتبه من العالم كله لكي يحمي هذا العالم من "بلطجته وكيده" على طريقة "قباضايات الخوّة" مقابل أن يترك العالم يقود مشروعه الاقتصادي للقرن الحادي والعشرين بعدما أيقن أنه أصبح وسيصبح خارج ملعب الطاقة والاقتصاد "الدولاري" في ظل هذا المتغير القادم.

لذلك فإنّ من يعتقد أنّ الولايات المتحدة الأمريكية تسعى وراء النفط، هو واهم وعليه أن يسقط هذه الفرضية في مقاربة فهم التفكير الأمريكي لإدارة القرن الحادي والعشرين. وهنا لا بدّ من الإشارة الى التداعيات السياسية لهذا التغير على الخليج ودوله من جهة، وعلى خريطة القوى في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا والشرق الأدنى من جهةٍ أخرى. وهذا هو ما يصلح تسميته بمخاض شرق أوسط جديد، شرق التوازات الجديدة والقوى الصاعدة.

كونفدرالية الغاز والسلاح العالمي
مما تقدم، نرى أنّ العالم سينقسم الى قسمين يكملان المشهد في القرن الحادي والعشرين (وقد فرضها قوة الأمر الواقع)، كونفدرالية غاز من عدة دول على رأسها روسيا وإيران والصين وأوروبا ودول البريكس والألبا تتحكم بلعبة الطاقة وتوزيعها لتشكل أوبك غازي جديد، مقابل تلزيم "الحراسة والأمن" "للشرطي العالمي" أي الولايات المتحدة لما تشكله من قوة إنتاجية عسكرية لا يمكن مزاحمتها.
ومن نافل القول أن لا ضمان لنجاح استراتيجية جيوسياسية شاملة للقرن الحادي والعشرين دون أخذ هذه الهويات والخصوصيات في الاعتبار أولًا وأخيراً، وأنّ السعي إلى إرساء دعائم نظام عالمي معاصر يتطلب استراتيجية متماسكة لتأسيس مفهوم جديد للنظام في جميع أنحاء العالم وتكون (أوامره) وقواعده وقوانينه قادرة على ربط أقاليم العالم بعضها ببعض. وهذه الأهداف يجب ألا تحركها المصالح الذاتية للدول، فقد انتصرت الحركات المتطرفة في العالم نتيجةً لذلك، وأدت إلى إرباك الجميع اليوم.

وها لا بدّ من القول إنّ مراهنة بعض المجموعات "الشرق أوسطية" وخصوصًا تلك التي شكلت وتشكل أداة دائمة في يد الأمريكي لتنفيذ مشاريعه السابقة في المنطقة وليس آخرها "الحرق العربي" الذي بدأ منذ أربع سنوات، هي مراهنة خاسرة، فخريطة الشرق الأوسط باتت واضحة المعالم وما يجري من إعادة تشكل، يؤكد أنّ حلفاء محور الولايات المتحدة في المنطقة، ينطبق عليهم المثل القائل: "ذاهبون الى الحج... والناس راجعة".