التعويذة!!..بقلم: د.بسام الخالد

التعويذة!!..بقلم: د.بسام الخالد

تحليل وآراء

الاثنين، ٢٠ أكتوبر ٢٠١٤

لم تكن جدته تدري أنها تودّعه للمرة الأخيرة، فقد نسيت - كعادتها كلّما سافر إلى الجبهة - أن تدسَّ له تعويذةً في جيبه وتتمتم له ببضع كلماتٍ غير مفهومة، وكانت تبدو عليه علامات الرضا حين يراها تمارس هذا الطقس كلما أنهى إجازته وهمَّ بالمغادرة إلى وحدته العسكرية.
كان «عادل» قد تربّى في كنف جدته بعد رحيل أمه إلى العالم الآخر، وهو ما يزال طالباً في المرحلة الثانوية، حيث كان إشراف أبيه لا يتعدى تأمين حاجياته ومصاريف المدرسة والنفقات، لذلك أناط مهمة الرعاية بالجدّة التي حاولت جاهدة تعويض الأولاد عن رحيل أمّهم المبكر وتمكنت، وهي الطاعنة في السن، من الإشراف عليهم واحتضانهم وتوجيههم التوجيه الصحيح في معارج الحياة القاسية التي لا ترحم.
كان «عادل»، بحكم ولعه بالجندية منذ الصغر، ينصت إلى حكايات الجدّة عن الفرنسيين الذين احتلوا سورية ويستمع بشغف إلى قصص البطولات التي حققها المجاهدون ضد الفرنسيين والتي كانت الجدّة شخصية فاعلة فيها بحكم مساعدة شقيقها المجاهد «أبو دحام» في الإغارة على مواقع الجنود الفرنسيين، حيث كانت تعمل بمثابة عنصر التأمين للقوات المهاجمة، وأحياناً كانت تستطلع المواقع المعادية وتنقل التفاصيل للثوار من دون أن يشك بها أحد.
عششت هذه القصص في مخيلة «عادل» الصغير وكبر الوطن في قلبه وعقله وأدرك أن الحرية أغلى ما يملكه الإنسان، وعندما دعي لخدمة الوطن تنامت هذه القيم في نفسه وتعزّزت معانيها لتصبح عقيدة راسخة في الدفاع عن الأرض واستعادة ما سلب منها وتمنّى ألا تنتهي خدمته العسكرية من دون أن يشارك في معركة المصير ضد أعداء الوطن.
كانت النسيمات التشرينية تداعب العلم العربي السوري على مدخل المعسكر، وكان «عادل» منهمكاً في كتابة رسالة لأصدقاء طفولته يخبرهم فيها عن الجندية التي تصنع الرجال وعن حياته التي انقلبت، رأساً على عقب، بعد التدريب وتعلُّم استخدام السلاح.. وبينما هو مستغرق في كتابة رسالته سمع صوت النقيب «محمد»، قائد وحدته، يأمره بتجهيز طاقم الدبابة على وجه السرعة فالوحدة تلقت أمراً بالتحرك إلى الجبهة لتكون ضمن قوام الوحدات الأخرى في مواجهة العدو.
عندها أدرك «عادل» ورفاقه أنّ فرصتهم قد حانت وأنّ الوطن بحاجة إلى الرجال الذين رضعوا حليبه وتنشّقوا هواءه وأدمنوا عشقه.. فها هو تشرين أمامهم يمدّهم بالعزيمة وما عليهم إلا أن يثبتوا أنهم أبناء هذا الوطن.
احتدمت المعركة.. وتقهقر العدو أمام الضربات الموجعة من القوات العربية السورية وكانت وحدة «عادل» تتقدم باتجاه تل «أبو الندى» بعد أن دمرت عدداً كبيراً من الدبابات المعادية، وازدادت حماسة المقاتلين وتابعوا تقدمهم بكل عزيمة وإصرار.. ومع نشوة النصر يتورّد وجه «عادل».. ومن بين أعمدة الدخان الكثيف والحرائق المشتعلة تراءى له وجه جدته الحنون تزغرد للرجال المنتصرين وأصوات حدائها تملأ الآفاق.
فجأة تغيب الصورة.. وينطفئ الضوء في العينين المتوهجتين.. يرفع «عادل» يده إلى صدره بتثاقل.. يتحسس مكان التعويذة.. وتعود صورة الجدة إلى الذاكرة تخاطبه قائلة: هذا اليوم الذي كنت أعدّك له.. هذا يوم عرسك يا حبيبـي!!
اثنا عشر تشريناً مرّت على الجدة.. وفي كل تشرين تضم أشياء شهيدها وتشم رائحتها بصمت ثم تعيدها إلى الصندوق الخشبي الذي تحتفظ فيه بأشيائها الثمينة.. وفي التشرين الثالث عشر رحلت الجدة لتلتقي شهيدها في السـماء حيث يَخْلـُدُ الشــهداء..