دفاتر شامية عتيقة -3- بين النهرين والشرفان .. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

دفاتر شامية عتيقة -3- بين النهرين والشرفان .. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

تحليل وآراء

الأربعاء، ١ أكتوبر ٢٠١٤

من محاسن الشام كما يخبرنا أبو البقاء البدري وينقلها لنا من زمنه إلى زمننا المكان المسمى (بين النهرين)، وموقع هذا المكان في زمننا هذا ينطبق على ساحة المرجة، وفقاً لما يحدده لنا الباحث أحمد إيبش أما البدري فقد كان قد قال لنا: هو مبتدأ الوادي يشتمل على فرجة سماوية بها دور وقصور وسويقة بها حانوت الطباخ وساجاتي وقطفاني وفُقّاعي وحواضر وفاكهاني وشوّا وقلّايين وسكرداني ونقلي وقاعة لبن وعدةٌ للجلبية وحمامٌ يشرح صدر البرية وقنطرة يتوصل منها إلى جزيرة لطيفة من رأسها ينقسم نهر بردى فيصير نهرين، والمقسوم منه نهر الصالح المعتقد الشيخ رسلان أعاد الله علينا من بركاته وعلى المسلمين طول الزمان. وبها مقصفان للبطّالين فيما بين المقسمين وقبالتهما زاوية للشاب التائب، يقام بها السبت والثلاثاء من الأوقات والوعاظ والدواخل ما يصير الحاضر غائباً. ويتوصل إلى زقاق الفرّايين والمشتمل على قاعات وأطباق وغرف وكم رواق، الجميع يطل على بين النهرين. ولكل مكان من ذلك ناعورة يستلذّ صاحبها بأنسها وتجلب له الماء إذا سمع حسها.
 وأما الشرفان فهما (الشرف الأعلى) وقد حدده الباحث ايبش بالمنطقة التي تمتد في أيامنا هذه من البحصة غربي ساروجة إلى نادي الضباط الجديد فمبنى الأركان وأما (الشرف الأدنى) – حسب ايبش أيضاً- فمن ساحة المرجة والسرايا إلى التكية والمعرض. والشرفان عند البدري هما من محاسن الشام حسب قوله " ومن محاسن الشام شرفاها" وما حويا من المناظر والقصور، وما فيهما من الولدان والحور. وتقرّب إلى الله تعالى أهلها ببناء المدارس، رغبة في جوار المجرد الفقير البائس. ورتّبوا له من الخبز واللحم والطعام، والزيت والحلو والصابون والمصروف في كل شهر على الدوام. فيجلس الطالب في شباكها ينظر إلى الماء والخضرة والوجه الحسن، فكيف لا ينبعث إلى طلب العلم ويتحرّك من فهمه ما سكن!
 ويقال إنّ بمدرسة الكججانية قبة بها طاقات لعدد أيام السنة والشمس دائرة على تلك الطيقان ولا تدخل إليها وهذا من حسن الهندسة. وأما جامع تنكز فإنّه في الشرف الأدنى، وهو من الغايات هندسة وبناء فيه عشرون شباكاً على خط الاستواء يشرف على الأنهار ومرجة الميدان وما حوى. وبوسط صحنه يمر نهر بانياس يتوضأ منه الناس، وبه ناعورتان يملآن ويفرغان إلى حوضين بهما سائر الأشجار، وجميع الرياحين والأزهار. وبينهما بركة مربعة بها كأس في غاية التدوير، ويجري الماء إليها من النواعير. فهو متنزه يُقصد وللمصلي معبد. وفي كل شرفٍ منهما عدة من المدارس والمساجد ولكل واحد ما يكفيه من الأوقاف استولت عليها أيدي المتشبهين بالفقهاء فاظهروا فيها أنواع المفاسد. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وكل شرف يطل على (الشّقرا) و(الميدان) و(القصر الأبلق) و(المرجة) ذات العيون والغدران.
هذا المسجد كما وصفه البدري رآه من يجايلنا نحن الذين نقدم هذه المادة لهذه المجلة على أنّه من محاسن جوامع دمشق الذي انتقل إلينا في العهد المملوكي، هذا الجامع الذي وصفه لنا البدري على النحو السابق لم يبق منه في عصرنا سوى منارته الرائعة وقسم يسير منه، أما بناؤه الأصلي فقد " قطش " – حسب تعبير إيبش- باقتراح بعض عباقرة الهندسة الذين لو هاجروا من بلادنا إلى البرازيل أو (واق واق) لأراحوا واستراحوا !
 وما أحسن قول الشيخ شمس الدين محمد النواجي الشافعي في وصف الشرف الأعلى وفقاً لما نقله لنا أبو البقاء البدري:
ألا إنّ وادي الشام أصبح آية
محاسنه ما بين أهل النُّهى تتلى
وان شرُفَت بالنيل مصر فلم يزل
دمشق لها بالغوطة الشرف الأعلى
ونقل البدري من خط العلاء علي ابن المشرف المارديني في غلام اسمه علي في الشرف الأعلى:
جنى عليّ ولكنَّ وجهه حسنٌ
وفعله المرتضى يحلو به الشغف
بدرٌ من الشرف الأعلى له نسبٌ
وهل لغير علي ينسب الشرفُ
وقد وصف الأمير مجيد الدين محمد بن تميم الميدان بقوله:
عجباً لميداني دمشق وقد غدا
كلٌ له شرفٌ إليه يؤول
والنهر بينهما لغير جناية
سيفٌ على طول المدى مسلول
وقال ابن الشهيد في (الشقراء) و(الميدان):
ولم تحكي جلّق في المحاسن بلدة
قول صحيح ما به بهتان
ولئن غدوت منافساً في غيرها
ها بيننا (الشقراء) والميدان
ومن تحرير القيراطي قوله في وصف الشقراء:
سر بي إلى الشقراء من جلق
واثن إلى الخضراء منك العنان
فيها جنان لو رأى حسنها
أبو نواس لَلَها عن (جنان)
وانزل بواديها الذي تربه
 مسكٌ وحصبا النهر منه جمان.
 (يتبع..)