المعرفة والمجتمع.. بقلم:شادي العمر

المعرفة والمجتمع.. بقلم:شادي العمر

تحليل وآراء

الخميس، ٢٥ سبتمبر ٢٠١٤

المجتمع الذي نعيش فيه، وكيفما كان شكله، شرقياً أو غربياً، مدنياً أو ريفياً، صغيراً أو كبيراً، هو دائماً بنية معقدة تتكون من عدة مؤسسات ومنظومات ومستويات، وتوجهه معايير وقوانين وأعراف وتقاليد وعادات وقيم. وخلطة المجتمع هذه خلطة معقدة جداً، جميعنا لا يعرف عناصرها كلها، ولا نسب تأثير وتكوين هذه العناصر، ولكن أغلبنا قادر على العيش في المجتمع والتكيف معه بشكل مناسب، وقد حدث هذا الأمر تدريجياً وتطور على شكل مهارات اكتسبناها عبر عمليات التنشئة والتربية والتواصل الاجتماعي والفهم والتأويل والمحاولة والخطأ.
بعد "مقدمة" ابن خلدون التي تعد بداية تأسيس علم الاجتماع، وفي القرون الثلاثة الأخيرة أصبح المجتمع موضوعاً للعلم والمعرفة الأكاديمية، عندما أدرك العقل البشري أنّ المجتمع كائن طبيعي تنطبق عليه نفس الشروط والقوانين التي تنطبق على بقية ظواهر الوجود، ومن أهمها السببية والحتمية والتأثير المتبادل. غير أنّ معرفة هذه القوانين بشكل نظري لا تكفي لمعرفة المجتمع بالشكل الصحيح أو كما ينبغي، فهذه القوانين ليست أولاً سوى مدخل للفهم، أما ثانياً فقد يطلب الأمر تحليل كل العمليات الاجتماعية المعقدة إلى عناصرها الصغيرة واحدة تلو أخرى.
النقطة الثالثة وهي الأهم.. أنّ كل ظواهر الوجود، سواء القليلة التي باتت مفهومة أو الكثيرة التي ما زالت في الانتظار، تتسم بأنّها ظواهر ناجزة، محددة الهوية ومنتهية، وأنّ فهم العقل البشري لها لا يغيّرها، بل يغيّر من نفسه حين يفهمها. أما الظاهرة الإنسانية، والتي هي الموضوع الأساس لعلمي النفس والاجتماع فهي ظاهرة غير ناجزة، ولا محددة الهوية، فالإنسان في تغيّر دائم منذ أن وجد على الأرض، والمعرفة هي المحرك الأساسي لهذا التغيّر والفاعل الرئيس فيه.
أن يعرف الإنسان نفسه، في المستوى الفردي أو الاجتماعي، أمر مختلف جداً عن معرفته بما حوله، فالإنسان يمارس فعل المعرفة بالأشياء ليتمكن من السيطرة عليها، أما معرفته بذاته فليست مدخلاً للسيطرة على ذاته أبداً، بل على العكس هي طريق طويل من التحرر والسيادة. هذا باستثناء قدرة فئة على السيطرة الظالمة على فئة أخرى نتيجة سلطة المعرفة التي قد يستحوذ عليها البعض دون الآخرين.
ولمعرفة المجتمع طريقان اثنان، الأول هو تجربة العيش في المجتمع ذاته، والتفكير فيه والاستفادة والاعتبار من أحداثه وتغيراته، واستخلاص النتائج التي تكون على شكل حكم وأمثال وفلسفات. وهذا الطريق لا يصنع علماء اجتماع، بل حكماء وأذكياء، اعتمدوا بشكل رئيس على مواهبهم العقلية الخاصة وعلى غنى تجاربهم، واستفادوا من طول عمرهم، لذلك ترى معرفتهم تثمر في خريف العمر بعد أن تكون الفرص قد ولّت، وبعد أن تكون العزيمة قد ضعفت، فتراهم يأسفون على الشباب الذين لا يعرفون، بينما يضيق الشباب بهم لأنّهم لا يطمحون.
الطريق الثاني لمعرفة المجتمع هو الدراسة الأكاديمية، أي أنْ ينذر مجموعة من الرجال والنساء دراستهم الجامعية وما بعدها لفهم المجتمع، ولكن الأمر لا ينتهي بمجرد الحصول على الإجازة، أو الشهادات العليا، فهذه لا تمنح سوى المفاتيح أو المناهج لعملية الفهم، يحتاج الأمر بعدها إلى بدء الأبحاث، والشروع في الدراسات، وتجميع الجهود الفردية في فرق عمل ومراكز ومؤسسات وهيئات كبرى، حينها لن يكون للمهارات الفردية وغنى التجارب الدور الرئيس ذاته الذي كان في الطريق الأول.
أخطر ما في المعرفة الأكاديمية للمجتمع أنّها تخصصية جزئية، وأنّها كي تفهم أي ظاهرة فإنّها تقوم بعزلها عن السياق العام لسير المجتمع، فإذا سار عالم الاجتماع في هذا الطريق ولم يعد ثانية ليضيف نتائجه إلى نتائج عمل الفرق والهيئات، فإنّ جهله بالمجتمع سيتحول من جهل بسيط إلى مركّب، وسيغترب عن مجتمعه ويفتقد مهارات القدرة على التكيّف معه، لأنّه سيعرف عن شيء واحد ما لا يعرفه الآخرون، لكنه سيكون جاهلاً ببقية الأشياء التي يعرفونها. والكارثة حينها أنّه إذا استشير في اختصاصه قدّم استشارة خاطئة، وإذا طُلب منه خطة بناء على معرفته قدّم خطة فاشلة.
إنّ أغلب خططنا الاجتماعية مازالت تعتمد على الخبراء والحكماء أكثر من اعتمادها على أكاديميي علم الاجتماع، لذلك ما زالت فاشلة في أغلبها، لا تنجح إلا نتيجة حظ أو صدفة، ولا غرابة طالما أنّ السواد الأعظم من علماء اجتماعنا لم يتخرجوا من الجامعة، أو لم يغادروها بعد.