دفاتر شامية عتيقة -2- قلعة دمشق .. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

دفاتر شامية عتيقة -2- قلعة دمشق .. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

تحليل وآراء

الأربعاء، ٢٤ سبتمبر ٢٠١٤

يحيطنا الباحث العربي السوري د. أحمد ايبش في دفاتره الشامية العتيقة باسم أثير لديه في الكتابة عن دمشق هو عبدالله بن محمد البدري (أبو البقاء) من علماء القرن التاسع والمولود سنة 847 وعن هذا العالم يدوّن كثيراً من معالم دمشق تدويناً معاصراً، يحدد لنا فيه المكان الذي كان فيما مضى ويبين لنا من ثم المآل الذي صار إليه في زمننا هذا. وهاهو البدري يقودنا معه للدخول في قلعة دمشق قبل (600 سنة تقريباً) حيث يصف البدري هذه القلعة بأنّها من محاسن الشام، ويؤكد حسن بنائها ويقدّر اتساعها "قدر مدينة" وبها ضريح السيد الجليل أبي الدرداء رضي الله عنه.
 وبها جامع وخطبة كالمدينة فإنّها بفرد خطبة لا غير، وخارج المدينة الخطب الكثيرة يعسر الآن علينا تعدادها. وبها النقود. وبها الدور والحواصل. وبها الطارمة التي ليس على وجه الأرض أحسن منها، كأنّها أفرغت بقالب من شمع ينظر الرائي أعلاها فيحسن نظره وإن طال مرآه.

 وهي تسامت رؤوس الجبال. يقال إنّ تمرلنك لما أن حاصرها وعجز عنها أمر أن ينقب تحتها وتقطع الأشجار وتعلق بها، حتى إذا انتهى تعليقها أطلق النار فيما تحتها من الأخشاب وظن أنّها تفسخ بذلك وتسقط شذر مذر فيبلغ مراده من أخذ القلعة فلما عمت النار فيما تحتها بركت بصوت أزعج الوجود كما يبرك الأسد، فمن ثم سموها بالأسد البارك، وهي الآن على الثلثين من علوها. وبالقلعة آبار ومجارٍ للماء ومصارف بحيث إذا وقع الحصار وقطع عنهم الماء تقوم الآبار مقامه. وبها يمر نهر (بانياس) وينقسم فيها إلى قسمين، يستمر أحدهما على حاله طاهراً للمنافع والاستعمال، والآخر تنسحب عليه الأوساخ والقاذورات، وهو المسمى بـ "قليط"، يمر تحت الأرض بنحو من قامتين لتشعب الماء الطاهر فوقه يميناً وشمالاً، حتى في بعض الأراضي يبلغ سبعة مجارٍ من الماء العذب ليس لأحدهما اختلاط بالآخر.
 ومصارفهم تسقط على نهر قليط، ويمر في المدينة إلى أن يخرج من الباب الصغير، ويتصل بمحلة (المزاز) فيضمحل فيما يليها من الأراضي التي تزرع الكرسنة والفصة والبيقية والقنب وما أشبه ذلك. وغالباً ما يسقى به القنب، وهو أبيض أملس كالرماح في الطول مجوف لا عقد به، يصب الماء من رأس الواحدة فيجري من آخرها، وقشره يعمل منه الخيوط والحبال، وتورى بالقنب النار وهو يقوم مقام الشعشاع والطرفاء لكنه ألطف منهما وأسرع وقيداً. كما أنّ الشيح أحسن من الحلفاء بعرفه الذكي أخضر وناشفاً. ومن محاسن الشام تحت قلعتها، فإنّها منهل للغريب ومرتع للقريب، وهي ساحة سماوية كبركة الرطلي في الوسع لاجتماع البرية، تحفها الدور وتعلوها القصور ويلحقها كل ما يرومه الإنسان وتشتهيه الشفة واللسان، لا يحتاج فيها سكانها لحاجة من المدينة ولا لجيرانها. فيها دار البطيخ الذي يباع فيه جميع فواكه البلد. وبه العين المشهورة المجمع على برودة مائها وعذوبته وخفته. وتحت القلعة سوق للقماش المزروع وسوق قماش للمخيط. أحدهما للرجال والآخر للنساء، وبها سوق للفرا والعبي وغير ذلك. وبها سوق السقطيين وسوق النحاس، وبها سوق السكاكينيين وبها سوق القربيين وبه للأرميين، وبها سوق قماش الخيل والبغال والبهائم والأغنام، وبها سوق القشاشين وبها سوق المدهون والخضريين، وبها سوق المحايريين والنجارين والخراطين، وبها سوق النقليين وبها دار الخضر وبها سوق المناخليين والزجاجين.
 وأما ساحة تحت القلعة فإنّك لا تستطيع أن ترى أرضها لكثرة ما به من المتعيشين والوظائفية. ويتخلل بينهم أرباب الحلق والفالاتية والمضحكون وأصحاب الملاعيب والحكوية والمسامرون وكل ما يتلذذ به السمع ويسر العين وتشتهيه النفس صباحاً ومساءً على هذا لا يفترون، لكن المساء أكثر اجتماعاً ويستمرون إلى طلوع الثلثين. وهو عبارة عن ثلاثة طبول متفرقة بأعلى القلعة، يضربون الثلث الأول كل واحد منهم ضربة والثلث الثاني من الليل يضرب كل واحد ضربتين، والثلث الآخر من الليل يطلع المؤذن على منارة العروس بالجامع الأموي، ويعلق لهم قنديل الإشارة، فيضرب كل واحد منهم ثلاث ضربات ويسوق الثلثين من التسبيح والآذان الأول إلى السلام ينتهي الضرب.
 وبها خطبتان: الأولى بآخرها بالمدرسة المؤيدية، والثانية بصدرها في جامع يلبغا. وهو من أحسن الجوامع ترتيباً ومتنهزهاً، بصحنه بركة ماء مربعة وداخلها فسقية مستديرة بها نوفرة يصعد منها الماء قامة، ومن فوقها مكعب عليه عريشة عنب ملون يصل الماء إلى قطوفها الدانية. وبجانبيها حوضان فيهما من أنواع الفواكه وأجناس الرياحين. وله شبابيك تطل على جهاته الثلاث: الأولى على تحت القلعة من جهة الشرق، والجهة الثانية تطل على ما بين النهرين وهي الغربية، والجهة القبلية تنظر إلى نهر بردى وما هناك من الأشجار والأزهار، هناك شجرة حور يحتاط بها أربعة رجال فلا ينظر الواحد لمن يقابله لعظم ساقها. وللجامع ثلاثة أبواب: الأول الشرقي وهو في صدر تحت القلعة ويسمى باب الحلق، والثاني شماليه يخرج إلى الميضا ويسمى باب الفرج، والثالث غربي ينحدر منه في درج إلى أول الوادي ويسمى باب المنزه.
 ثم يحدد (إيبش) بعد هذا العرض مكان تحت القلعة بقوله:
"موقعها اليوم ينطبق مع الزرابية والسنجقدار وسوق الهال (سابقاً) وسوق العتيق (سابقاً أيضاً).
كما يحدد موقع دار البطيخ عند سوق القرماني جنوبي مدرسة الشام ".
 (يتبع...)