الـفـن "السياسي".. بقلم: شادي العمر

الـفـن "السياسي".. بقلم: شادي العمر

تحليل وآراء

الخميس، ١٨ سبتمبر ٢٠١٤

للفن أيّاً كان شكله، رسماً أو نحتاً أو موسيقا، أو فناً سابعاً، أو.. إلى آخره من الأصناف، وظائف كثيرة، فيكون أداة أو وسيلة تتحقق من خلالها أشياء وأهداف كثيرة، وينال حينها قيمته من قيمة الغايات التي يمكن تحقيقها به. من جهة أخرى يرى بعض فلاسفة الفن المعاصرين أنّه ليس ثمة غاية يمكن حصر الفن وتحديده كوسيلة لأجلها، أي إنّ الفن لا غاية له سوى ذاته، أو إنّه غاية مرتبطة بالجمال أو هي الجمال نفسه، إذ لا يمكن أن يكون الفن فناً حقاً إذا لم يكن جميلاً.
وربما يعود اختلاف الآراء حول الغاية والوسيلة في موضوع الفن إلى طبيعة بداية ظهور الفن في سلوك الإنسان، إذ ظهر قبل أن يعرف أنّه فن، ثم سمي كذلك بعد عشرات آلاف السنين، مارسه الإنسان البدائي كجزء طبيعي من التعبير عن ملكة التخيل التي ميزته عن غيره من الكائنات، وكانت من الأسباب المهمة في رقي نوعه وتطوره.
ولقد كان الفن عبر تاريخ الإنسانية رفيق الحضارات، وأحد حقول تأثيرها، وعلامة فارقة على تميزها وعمق فلسفتها، وإشارة إلى تفوق أمة ما على غيرها. فاستمر عبر الزمن في التغلغل أكثر فأكثر بهدوء وبطء شديدين، ولكن بقوة ورسوخ أيضاً، فصار دائماً مَعْلماً على المدنية في عصره، وصار مرافقاً أساسياً للحوادث والمواقف الكبرى، كالولادات والموت والحروب والزرع وطقوس العبادات والدين.
ورغم أنّ الفن شكل من أشكال الوعي الإنساني المتطور دائماً، فإنّه يختلف عنها في أنّه وعي قديم وحاضر دائماً، وهو في الوقت نفسه استشرافي النزعة، يحاول أن يسبق الواقع بخطوة أو أكثر، فهو في الأساس مجال التعبير عن تخيل الإنسان لحياة أفضل وغد أجمل. أما بقية أشكال الوعي فتتسم غالباً بالتراتبية التاريخية، حيث كان الوعي البدائي السحري أول أشكال الوعي، ثم تلاه الأسطوري والغيبي، ثم الديني الذي رافقه أيضاً الوعي الفلسفي، وصولاً إلى الوعي العلمي الذي تشهد الحضارة الإنسانية حالياً قمة تطوره وازدهاره. ومع أنّ كل شكل سابق من أشكال الوعي يبقى حياً بجزء منه رغم الوعي الجديد، إلا أنّه ينحسر في جزء كبير منه لصالح هيمنة وسيطرة الوعي الجديد. يستثنى من ذلك الوعي الفني الجمالي الذي يسمو ويتطور مع كل ولادة مرحلة جديدة من الوعي.
وقد أدى تقدم العلم وتطور الوعي العلمي إلى ردة عنيفة من الكثير من الفنانين ومحبي الفن وناقديه، معتبرين أنّ ارتباط العلم بالتكنولوجيا والمادة وتطبيقاتها يجعله مضاداً للفن، وعدواً للجمال الذي ظنوا أنّ من طبيعته السمو فوق كل ما هو مادي ونفعي، والغريب المفارق في الأمر أنّ العلماء أنفسهم كانوا من المدافعين عن أنّ العلم صديق للفن وعنصر مهم في تكريس الرؤية الجمالية للوجود. وأنّ المعرفة العلمية بوضوحها وطبيعة يقينها يمكن أن تسهم في فتح آفاق جديدة أمام التعبير الفني وموضوعاته وصوره.
أما على صعيد المجتمعات فقد نظر للفن في بعض الأحيان على أنّه ترف زائد لا طائل منه، لا يلقى الاهتمام إلا من نخبة المجتمع وطبقاته الأكثر غنى وثروة، وأنّه لا يستحق في فترة ما أي أولوية بالنسبة لغيره، لكن اللافت للانتباه أنّ انتشار هذه النظرة التي تحط من قيمة الفن وأهميته يترافق عادة مع تخلف المجتمع وتأخره، ومع رغبته البائسة في الصعود والتطور دون أن يكون قادراً على تحديد آليات وطرائق الخروج من دائرة التخلف.
ويبدو أنّ الفن عكس منذ ولادته قدرة الإنسان على تمييز الجمال وتفضيله، ومن ثم رغبة البشر في المشاركة في صناعة هذا الجمال وإكماله، وإذا كانت الرغبة في التطور والتقدم هي من وجهة نظر أخرى رغبة في صناعة العالم الأجمل والأفضل، فلابد بناء على ذلك أن يكون الفن أساساً في كل مشروع نهضوي إصلاحي تقدمي. لذلك ليس الفنانون هم الذين يجب أن يكونوا المعنيين بالفن، لأنّهم في الأصل كذلك. بل يجب على ساسة البلد ومنظري الدولة الاهتمام به واللجوء إليه، إذا كانوا حقاً ينشدون التطور والتقدم.
لذلك ينبغي على كل خطة تنموية، أو برنامج سياسي، أو إعلان حكومي أن يجعل الفن عنصراً أساسياً في رؤيته المستقبلية للمجتمع والدولة، ويجعل له أيضاً دوراً أساسياً في آليات العمل وطرائق تحقيق الأهداف المراد تحقيقها.