إلغاء الآخر؟!.. بقلم: د. عبد الرزاق المؤنس

إلغاء الآخر؟!.. بقلم: د. عبد الرزاق المؤنس

تحليل وآراء

الاثنين، ١٥ سبتمبر ٢٠١٤

في زمن جفّت فيه القلوب عن خفقات الشوق إلى لقاء الله عز وجل، وضعفت فيه همم الإيمان، وغاب أو تغيب عن الحياة أهل السلوك الرباني وعلماء الحكمة والأحكام، فقد أصبحت فيه معالم التربية وتصعيد الطهر والصدق وحب الآخر شقشقات لسان وزخارف ألحان في الأقوال تعوّض عن عطالة القيم الخلقية الحيوية وعن نبضات الألم والهم والإحساس بالآخر فرداً كان أم وطناً، ولو كان من الأقربين بمظاهر عناوين وتجميل هيئات وتصنّع ابتسامات حتى طغى على أصحابها الحرص وطول الأمل والتعبد النفسي لهوى الأقوياء والأغنياء والشهوات والتوسل بأية وسيلة إلى المناصب والمقامات والثناءات، لنشهد من ثم ظاهرة عششت في عالمنا نحن العرب والمسلمين وهي أنّ الذين نحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى كلهم طالب صيد غير أنّ الشِباك مختلفة، وما هذا كله إلا: (فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا..)، وهذا هو حال الإنسان- كما نشهده ملتصقاً فينا اليوم- عندما يُغيّب المنهج الرباني للحياة، وعندما يتلاعب فيه من أؤتمنوا على حمله فيتصرفون في الأولويات ويهمشون الفرائض والواجبات ويقدمون المندوبات أو المستحبات لأنّها لا تؤثر على قوام إرادتهم في خطوات الحياة، وهذا ما بدأت به تباشير الحياة الأولى قبل أن تمتحن بعالم الشقاء عالم الحياة الدنيا، وقد أرشد الله تعالى نقطة البشرية الأولى التي صنعت في الجنة إلى مكامن العداوة والبغضاء التي تريد إلغاء الخير وتريد مزج الآخر بأهواء عدوه الفاشل، ولتعلم هذه البشرية الأولى أنّ كل فاشل هو عدو لكل متقدم متفوق، وكل منحرف هو عدو لكل مستقيم، وكل كاذب منافق غشاش هو عدو لكل صادق مخلص، وكذلك فكل عالم مجتهد وكل حامل لرسالة الإيمان والأمانة والعطاء عن زهد وقناعة وحسن توكل على الله تعالى لابد أن يوجد له ولو أقرب الناس إليه في أسرته أو وظيفته أو مجتمعه من يناصبه الكره والحسد والعداوة وحب السقوط ولو بتصنع الشر والبغضاء عليه عن طريق الذم والتشويه، وهذا قد حصل للأنبياء ومثله وأعظم حصل لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وإليه الإشارة في قول الله تعالى لآدم وحواء عليهما السلام تحذيراً من فتنة إبليس وعداوته: (إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) أما سبب هذه العداوة فجذرها ومرجعها إنما يعود إلى التكبر الذي تختزن فيه سخائم النفوس من أحقاد وحسد وسوء ظن وكراهيات وعداوات وتنقيص من شأن الآخرين وسخرية وشماتة وتشهير بالسوء بعد أن ألغيت حرمة الكرامة لهم، ومن قبلها غابت القناعة وظهر الكفر بقضاء الله وقدره، وهو ما جاء في القرآن عندما قال إبليس عن آدم: (أنا خير منه)!.. إنّ أخطر ذنوب الدنيا من أولها إلى منتهاها هو الذنب الذي طُرد إبليس بسببه من الجنة ألا وهو الكبر والغرور بالنفوس، وإنّ الكبر نفسه هو الذي يمنع من دخول الجنة يوم القيامة مهما حمل المؤمن معه من أعمال وطاعات ومبراتٍ ظاهرة إن لم يستل من نفسه حب الأنا والغرور والتكبر ليعيش مع البشرية كلها بمعايير: (إنما المؤمنون إخوة) و(لقد كرمنا بني آدم) من غير تميّز على أحد، وكذلك بمعايير: (.. إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا..) أي من غير عداوات ولا خيانات ولا كذب ولا نفاقيات، ومن غير سعي لإلغاء الآخر إذا كان أفضل أو أنفع أو أعلم أو أصدق، وقد جاء في صحيح مسلم الحديث الشريف: (لن يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) كيف، وقد خرج من خرج منها بالكبر؟! وهو مخزن الرذائل كلها، ألا إنّ أي إنسان في الوجود كله مهما بلغ من التقى والصلاح – ما عدا الأنبياء- لابد وأن يكون مبتلى بنقيصة أو ذنب مشدود فيه، ظاهراً في الإثم أم باطناً، ولكن أخطر أنواع الذنوب والآثام ما كان باطناً من أنواع الكبر والحقد وسوء الظن والكراهيات، وهي التي تصنع الفساد بين الإنسان والآخر ذكراً كان أم أنثى، وهذه الآثام لا يبقى معها دين ولا تدين مهما زعم صاحبها أنّه يَعرف الدين أو تَعنْون بعناوينه أو اصطبغ بألوانه، فأي دين هذا، وأي إسلام هذا، وأي إيمان هذا إذا كان لدى صاحبه نوايا بغضاء وأذى وقتل وتدمير، وحسد وإلغاء وتنقيص؟! فقد جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلى! قال: إصلاح ذات البين، فإنّ فساد ذات البين هو الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدِين!).