من حلب الى القنيطرة برؤية تحليليّة

من حلب الى القنيطرة برؤية تحليليّة

تحليل وآراء

الأحد، ١٤ سبتمبر ٢٠١٤

 لم يشهد التاريخ الحديث حرباً بالشكل الذي تشهده سورية، فأكثر من 1600 جماعة مسلّحة متشدّدة تخوض حرباً ضروس منذ أربع سنوات على مساحاتٍ جغرافيّةٍ تحتاج بمواجهتها جيشاً يتجاوز عديد الجيش السوري أضعاف مضاعفة.
هذه الجماعات التي تخوض حربها بدعمٍ مباشر من عشرات الدول وترفد عديدها البشري بشكلٍ دائم وغير متوقّع، بتسهيلات حدودية من الدول المحاذية لسورية بما فيها الكيان الصهيوني، حيث تمّ رصد مقاتلين من حوالي 85 جنسية أكثرهم توانسة وسعوديين وشيشانيين وليبيين، وغيرهم بما فيهم جنسيات أوروبية مختلفة.
وعلى أغلب مساحة سورية البالغة 186.475 كلم مربع تتواجد وحدات الجيش السوري وتخوض أشكالاً متنوعة من المعارك في ظروف بالغة التعقيد، اضطّرت الجيش السوري في بدايات دخوله الإشتباكات الى التموضع الدفاعي بمواجهة هذه الهجمات للحفاظ على المدن الكبرى والمواقع الإستراتيجية والهامّة، والتي ما زال بعضها تحت سيطرة الجماعات المسلّحة حتى الساعة.
الجيش السوري المعدّ أصلاً لخوض قتال كلاسيكي بمواجهة جيوش نظامية، كانت مواجهاته الأولى مع مجموعات صغيرة متفرقة ومنتشرة في مساحات جغرافية متباعدة، وكان تركيزه في بداية المواجهة على إبقاء خطوط الإمداد والطرقات الرئيسية بين العاصمة وباقي المناطق سالكة، وهذا ما عرّضه للكثير من الكمائن والخسائر.
في مرحلة التحوّل الى الدفاع دأبت القيادة العسكرية السورية على إعداد الخطط الملائمة لخوض صراع يعتمد على الإنتقال من الدفاع الى الهجوم المضّاد، هذه المرحلة التي تميّزت بنشر وحدات الجيش بشكلٍ مغاير لإنتشاره الطبيعي في الثكنات وعلى خطوط الدفاع التقليدية.
ومن المعروف أنّ ثقل تواجد الجيش السوري كان في الإمتداد الجغرافي من الحدود مع فلسطين المحتلة الى مناطق شمالي العاصمة دمشق، ضمن أنساق دفاعية تحتوي العديد من خطوط الدفاع والمواقع والثكنات والمطارات، في حين لم يكن يتمركز في المنطقة الشرقية المحاذية للحدود مع العراق وتركيا سوى فرقة عسكرية عادةً ما يكون جزءاً منها متموضعاً في أماكن الثقل خلف خطوط الدفاع عن دمشق، هذا الأمر ينطبق أيضاً على حلب وإدلب وأريافهما وكذلك الأمر في المنطقة الوسطى والساحل، حيث لم يكن يتواجد إلّا مواقع متخصّصة في الدفاع الجوي والمطارات وحاميات دفاع تتناسب مع أحجام هذه المواقع ولا تأخذ في عين الإعتبار أي تهديد داخلي كالذي تشهده سورية حالياً.
بعد دخول الجيش السوري في المواجهة اضطّرت القيادة العسكرية الى إعادة توزيع القوات العسكرية على أغلب المساحة الجغرافية لسورية في المدن والأرياف، حيث شكّل بعض هذه القوات درع حماية عن المدن والمواقع فيما اضطّرت وحدات أخرى الى خوض الإشتباكات في كل البيئات والظروف، من القتال في المساحات المفتوحة الى مواجهات الشوارع والقتال القائم على المهام الخاصّة في الجبال والصحراء في بقعٍ جغرافية شكّلت بيئة حاضنة للجماعات المسلّحة ممّا صعّب على الجيش مهماته.
معركة بابا عمرو كانت فاتحة مرحلة الهجوم المضّاد، حيث كان على رأس أولوية القيادة العسكرية السورية إبعاد الخطر من جهة الحدود اللبنانية لقرب هذه الحدود من منطقة العاصمة والمنطقة الوسطى وعلى رأسها مدينة حمص، وكانت معركة القصير أول مدينة يحرّرها الجيش السوري وقوات حزب الله، هذا التحرير الذي تبعه معارك طاحنة في ريف حمص وريف تل كلخ وكذلك في القلمون، وخلال أشهر كرّت سبحة المدن والبلدات التي تساقطت واحدةً تلوَ الأخرى من الزارة الى قلعة الحصن في أرياف حمص الى النبك وقارّة ويبرود ورنكوس، فيما بقيت فلول الجماعات المسلّحة حتى اللحظة تقاتل في الجرود بين لبنان وسورية وتحديداً في منطقتي عرسال والزبداني.
هذا الأمر الذي أدّى الى إبعاد الخطر بشكل كبير عن العاصمة والمنطقة الوسطى ونتج عنه تحرير كامل مدينة حمص، التي ما زال فيها حي الوعر وهو يعتبر حمص الجديدة ينتظر المصالحة أو الحسم، فيما تبقت أجزاء من ريف حمص كتلبيسة والرستن وبعض الريف في حالة تماس مع الجيش السوري حتى الآن.
الإنتصارات الأهم التي حقّقها الجيش السوري بعد هذه المرحلة كانت في كسب وحلب، حيث تمَ طرد وهزم كامل القوّة التي دخلت الى منطقة كسب وتكبيدها خسائر فادحة.
الأمر نفسه حصل في حلب، فمن مدينة كانت أحياؤها الغربية محاصرة بالكامل الى عملية عبر الصحراء قادها قائد وحدة المهام الخاصّة في الجيش السوري العقيد سهيل الحسن "النمر"، الذي فتح الطريق عبر السلمية خناصر الى قلب المدينة وخاض معارك تحرير أجزاء كبيرة من الريفين الشرقي والجنوبي، أهمها تحرير المدينة الصناعية وفك الحصار عن سجن حلب وتضييق الخناق على الجماعات المسلحة في الأحياء الشرقية للمدينة من خلال السيطرة بالنار على طريق الكاستيلو وعند محور حندرات.
النمر الذي يقاتل هذه الأيام في حماه لم ينسَ حلب كما يشيع البعض، فهو والقيادة السورية يدركان أهمية معركة ريف حماه بالنسبة لحلب من خلال توسيع نطاق السيطرة والإمتداد شمالاً عبر قضم مورك وخان شيخون ومعرّة النعمان بما يساعد في فتح الطريق الى حلب بشكلٍ أكبر ويجعل معركة ريف إدلب القادمة أكثر سهولة.
إنّ ما جرى في المنطقة الشرقية وتحديداً في محافظة الرقّة كان استثنائيًا وأسطورياً، فبقاء وحدات حماية الفرقة 17 واللواء 93 ومطار الطبقة يخالف كل القوانين والأعراف والتجارب العسكرية من ناحية الصمود كل هذا الوقت الذي وصل الى ما يقارب السنة.
في حين أنّ وحدات من الجيش السوري ما زالت تقاتل في أجزاء من مدينة دير الزور ومطارها العسكري، وكذلك الأمر في مدينة الحسكة مع وحدات حماية الشعب الكردية.
في محيط العاصمة دمشق وفي معركة كبيرة ومعقدة وضارية، استطاعت وحدات الجيش السوري أن تقطع كل طرق الإمداد عن المسلحين في الغوطة الشرقية وأن تحرّر المليحة خط الدفاع الأهم عن دوما، وها هي جوبر تستعد للّحاق بالمليحة حيث بات وضع الجماعات المسلّحة في وضع ما قبل الإنهيار الكامل.
في حين يعتبر الهجوم على حي الدخانية وحي الكبّاس ما وصفته في موضوع سابق بالعمل الإنتحاري الذي استطاعت وحدات الجيش السوري التعامل معه بدقّة وحزم، وربما تكون الدخانية وحيى الكبّاس على وشك إعلانهما مناطق محرّرة خلال كتابتي هذا الموضوع
في معركة الغوطة الشرقية التي لن تطول كثيراً، حاول زهران علّوش رفع معنويات مسلّحيه من خلال الهجوم على الدخانية والكبّاس للتعويض عن خسارة المليحة وانهيارات جوبر.
وفي سياق الضغط على الجيش السوري والقيادتين السياسية والعسكرية بدأت المعركة في الجنوب السوري وتحديداً في القنيطرة ودرعا تأخذ شكلاً أكثر وضوحاً من خلال الدخول العلني لـ"إسرائيل" على خط المواجهة، في تطورٍ خطيرٍ يهدف إلى إقامة شريط عازل ضمن مناطق تمركز وحدات الرصد والإستطلاع السورية التي ما زالت عملاً بإتفاقية الهدنة تنتشر بالأعداد والأسلحة المتفق عليها ضمن الإتفاقية، التي تشرف على تنفيذها قوات الأندوف التابعة للأمم المتحدة.
في القنيطرة وبنتيجة التدخّل الصهيوني المباشر من خلال الدعم الناري واللوجستي والإستشفائي، وسماح القوات الصهيونية للجماعات المسلّحة بالعبور من الأراضي المحتلة بإتجاه القرى المحاذية ومنها ما حصل عند معبر القنيطرة والقحطانية وبعض المعلومات الواردة بخصوص التسلل الى الحميدية وغيرها، يبدو الوضع غير مستقر ويحتاج الى الإستعجال في هيكلة المواجهة والمواحدات العسكرية المنتشرة هناك على شاكلة قوات خاصة ووحدات كمائن، والقيام بمعركة استنزاف مضادّة للجماعات المسلّحة، وصار ضرورياً أيضاً إطلاق مقاومة سورية تستبق الإعلان عن الشريط العازل والبدء بمعالجة الثغرات الناتجة عن حجم انتشار الوحدات السورية ومستوى وعدد الأسلحة بنوعية قتال مختلفة تتخلى عن الإنتشار التقليدي وتنتقل الى حرب الكمائن والهجمات الخاصة، مع الإبقاء على التلال الحاكمة كنقاط قيادة وسيطرة ومنع الجماعات المسلّحة من الوصول الى خطوط الدفاع الأولى عند سعسع وريف الكسوة.
إشارةً الى أنّ الجيش السوري يخوض معركة القنيطرة في ظل تواجد كثيف للعديد من الخلايا التي تحرّك بعضها ولا يزال بعضها الآخر نائماً في ريف الكسوة وزاكية وبعض الأماكن القريبة من العاصمة كخان الشيخ، وهذا ما يلزم الجيش على إبقاء عدد كبير من قواته في حالة الرصد والترقّب وعدم القدرة على تحريك القوات الى أماكن الإشتباك في القنيطرة، والحلّ الأمثل حالياً هو تثبيت نقاط التلال الحاكمة عبر تعزيزها بقوات خاصة ومفارز مضاد للدروع للتعامل مع آليات الجماعات المسلّحة المستخدمة في الإنتقال السريع من الدفاع الى الهجوم والبدء بتنظيم أعمال قتالية هجومية في قلب القرى التي تسيطر عليها الجماعات والشروع بإقامة الكمائن المتحركة لضرب وإرباك حركة الجماعات المسلّحة.
في كل ما استعرضناه تبدو مسألة هامّة جداً وهي إمساك الجيش السوري بزمام المبادرة منذ أكثر من سنة وتحقيقه انتصارت كبيرة تم استعراضها ضمن النص، مع تثبيت الجيش لنقاط الدفاع القوية في كل المدن والمواقع التي يسيطر عليها بالتعاون مع قوات الدفاع الوطني التي تساهم في حفظ الأمن والأعمال القتالية معاً.
لا نستطيع القول إنّ الجيش السوري ربح الحرب ولكنه في مرحلة إنهاء المعارك الكبرى والإنتقال الى محاربة الإرهاب ببعد أمني وخصوصاً في الأرياف، مع الإشارة الى أنّ حسم معارك أرياف حلب وإدلب وحماه وحمص ودمشق سيعجّل في استعادة سيطرة الجيش السوري على كامل المنطقة الشرقية في دير الزور والرقة والحسكة، وغيرها لقدرة الجيش حينها على تحريك قوات كبيرة لم يعد لها أدوار قتالية في الارياف المذكورة.
وربما تكون معارك المقاومة السورية متوازية مع معركة الأرياف والمنطقة الشرقية والتي ستكون نموذجاً متطوراً عن النموذج اللبناني.