أبـو فهد .. بقلم: د.بسام الخالد

أبـو فهد .. بقلم: د.بسام الخالد

تحليل وآراء

السبت، ٣٠ أغسطس ٢٠١٤

أبو فهد هذا ليس اسمه الحقيقي، بل اسمه الحركي.. فقد كان على المجاهدين- نظراً لظروف الجهاد وسرّية الأعمال القتالية- أن يتخذوا أسماء حركية حتى لا تكشف أسماؤهم الحقيقية.
 أبو فهد أحد الرجال الكثيرين الذين قارعوا الفرنسيين دون أدنى خوف أو رهبة، فمثله كان أبناء الشعب كلّهم يرفضون الاحتلال ويتصدون للمحتل كلّ حسب موقعه ومقدرته.
كان أبو فهد يعيش في إحدى قرى جبل الزاوية، وعندما وعىَ الحياة أفاق على ظلم المستعمر التركي، فشقيقه الأكبر سيق إلى السفر برلك ولم يَعُد, كما سيق شبان كثر من أبناء سورية، فكانت هذه الحادثة بمثابة الشرارة الأولى التي اتّقدت بها نفسه لينذر حياته للجهاد في سبيل الوطن.
ومع دخول القوات الفرنسية إلى سورية انضم أبو فهد إلى المجاهدين في ثورة الزعيم إبراهيم هنانو، الذين اتخذوا من منطقة الشمال وجبل الزاوية مركزاً لعملياتهم ضد الفرنسيين ووجد نفسه وجهاً لوجه أمام هذا القائد الكبير وأمام رجال مثل المجاهد مصطفى الحاج حسين والمجاهد عقيل السقاطي والجُعْب، الاسم الحركي لأحد المجاهدين الأشداء الذي لا أعرف اسمه تحديداً، وإنّما كان يتكرر على لسان أبي فهد باستمرار مقروناً بالعمليات الأشد خطورة ضد الفرنسيين.
أسماء كثيرة وردت في أحاديث أبي فهد لم أعد أذكرها الآن، فقد كنت في الثانية عشرة من عمري عندما كانت تصطحبني جدّتي إلى قريتها وإلى كرم العنب الذي يمتلكه شقيقها أبو فهد في إحدى المناطق الجبلية القريبة من القرية.
حتى اليوم، أذكر تلك الأمسيات الرائعة في الكرم والتي يبدأ فيها أبو فهد سرد قصصه وذكرياته مع المجاهدين، وكنت أصغي بانتباه منقطع النظير لجمال الحكايات، دون وعي بمضامينها وفحواها, لكنني عندما كبرت قليلاً وبدأت تعلّم دروس التاريخ في المدرسة، أدركت كل شيء ووضعت تلك الأسماء التي كنت أسمعها في أماكنها الحقيقية !
لقد عرفت من هو إبراهيم هنانو وعرفت كل المجاهدين الذي قادوا الثورات السورية في الساحل والشمال وحمص وحماة وجبل العرب والجولان, وأدركت لماذا كان يقص عليّ المجاهد أبو فهد كل هذه القصص وأنا الطفل الصغير !!
كان يدرك، رحمه الله، أنّ دروس الثورة يجب أن تلقَّن للأجيال القادمة، ولمّا كان أبو فهد منزوياً، آخر أيامه، في كَرْمه ولم يكن أمامه إلاّ أنا –الطفل الصغير المصرّ على سماع قصصه وحكاياته عن الثورة والثوار- فقد كان يفضي لي بكل ما مرّ به من قصص الجهاد والاضطهاد والتنكيل التي كان يمارسها الفرنسيون على شعبنا، وبالمقابل كان يروي لي قصص البطولات والتضحيات والعمليات العسكرية التي كان يقوم بها الشَّتا وهذا هو الاسم الذي كان يطلق على المجاهدين.. لقد تحدث عن عملياته مع عقيل السقاطي المجاهد الكبير، وتحدث لي عن عملية السَّطر (وهو اسم لمجموعة بساتين كثيفة يخترقها نهر صغير) وكيف تمكن ورفاقه من مباغتة الجنود الفرنسيين الذين جاؤوا لمداهمتهم، وكيف خلصوهم أسلحتهم وقيّدوهم واقتادوهم أسرى إلى مقر قيادتهم في الجبال... تحدث لي عن مرحلة أَسَرِهِ وكيف كلّفه الفرنسيون بمهمة الدليل ليرشدهم إلى قوات هنانو المتمركزة في منطقة بين معرة النعمان وحلب... في هذه الحادثة حشد الجنرال الفرنسي، قائد الحملة، قواته ليقضي على تجمعات المجاهدين التي يقودها هنانو واصطحب معه في سيارته أبا فهد ليكون دليلاً له في الطريق, وقبل الوصول إلى المنطقة التي كان يتجمع فيها الثوار بعشرة كيلومترات، انحرف بهم أبو فهد، الذي كان يدرك خطورة مهمته، شرقاً لإطالة المسافة فما كان من الجنرال إلا أن أوقف الحملة وفَرَد خارطة كانت معه في السيارة وتفحصها، وما هي إلا لحظات حتى انهال على أبي فهد ضرباً وركلاً بيديه ورجليه, وسمع صوت المترجم يقول: خاين.. وبالطبع كان أبو فهد سعيداً بخيانته للفرنسيين، تلك الخيانة التي أنقذت المجاهدين رفاق السلاح.
المجاهدون الذين أنقذ حياتهم, هم أنفسهم الذين خلصوه من الأسر فيما بعد عندما قاموا بعملية انتحارية رائعة أثناء إحدى ولائم الفرنسيين في القشلة بمنطقة أريحا، وتمكنوا من فك أسر جميع المجاهدين، الذي حبسهم الفرنسيون في إسطبلات الخيل تمهيداً لإعدامهم، وذلك أثناء انشغال الجنرال وأتباعه بالوليمة.
قصص الجهاد كثيرة التي حكى عنها أبو فهد، كما كل القصص التي صنعها الثوار في سورية.
 اليوم إذ أذكر هذا المجاهد، الذي توفي منذ سنوات طويلة, فإنّما أذكر كلّ الذين صنعوا مجد الوطن على مدى ستة وعشرين عاماً من الكفاح والنضال وحققوا الجلاء.
أبو فهد..عاش السنوات المتبقية من عمره بعد الجلاء منزوياً في كرْمه، يرعى أشجاره المثمرة ويُقلم دوالي العنب ويعيش على الكفاف.. لم يتبجح يوماً ببطولات زائفة ولم ينتظر غنيمة ولم يسرق أموال الآخرين ولم يعتدِ على جار ولم يشهر سلاحاً في وجه أبناء قريته ولم ينتظر مكافأة من أحد، لأنّه مقتنع أنّ غريباً دنّس تراب وطنه عليه أن يرحل، مات أبو فهد فقيراً، لكنه كان غنياً بأخلاق الثائر الحقيقي الذي جاهد ليصنع وطناً !!